طالما كانت ظروف المنطقة سببا رئيسا لعرقلة محاولات إقليم كردستان إجراء استفتاء شعبي قد يفضي إلى خيار انفصال كردستان عن العراق، إضافة إلى الانقسام الداخلي الكردي حول توقيت هذه الخطوة. فجل ما كانت تركز عليه حكومة إقليم كردستان هو أن يكون الانفصال سلسا ودون ضحايا، ويبدو أن ما يعانيه العراق من عدم استقرار سياسي وأمني أصبح سمته الأساسية، وفقدان السيادة الذي أرزحه تحت احتلال "أميركي إيراني"، يجعل من التفكير في خيار الاستفتاء حول تقرير مصير كردستان خيارا لا بد منه. وكل الظروف التي تمر بها كردستان والمنطقة والعالم تؤكد أنه لن يكون باستطاعة إيران وتركيا الوقوف ضد هذا الخيار الكردستاني، وكذلك فإن أميركا والغرب لن يختارا الوقوف ضد هذه الخطوة حال اللجوء إليها، وسنحاول فيما يلي توضيح الأسباب التي تجعلنا نتوسم هذه المواقف الإقليمية والدولية.

لم تكن الحكومة العراقية عاملا مؤثرا في موضوع انفصال إقليم كردستان عن العراق من عدمه. فالمشكلات التي عانى منها العراق منذ 2003 ولغاية يومنا هذا أفقدته أي تأثير على الملف الكردستاني بشكل عام وملف الانفصال بشكل خاص. فإذا كان الأمل في نشوء عراق ديموقراطي تعددي قد منع الكرد من التفكير في الانفصال بشكل جاد، فإن الانحراف الذي أصاب العملية السياسية ونشوء دكتاتورية المذهب، وفقدان العراق للقرار السيادي أخيرا، يجعل من الانفصال الخيار الوحيد للكرد للتخلص من مهانة التبعية العراقية لبعض الأطراف الإقليمية. ولذلك فلا يتوقع أن تكون للعراق أية ردود فعل قوية حيال خطوة الاستفتاء وحتى الانفصال، خاصة وهو يشارك إقليم كردستان الآن حربا شعواء ضد داعش والإرهاب، ناهيك عن أعبائه الاقتصادية الكبيرة.

كانت إيران تعتبر سابقا دولة متمردة على المجتمع الدولي وقراراته، لا تتقيد بأي توجهات دولية، غير أن اتفاقها مع الدول الخمس حول ملفها النووي أخيرا يضعها أمام مسؤوليات دولية جديدة قد لا يكون من السهل عليها التفريط بها. كذلك فإن مشاركتها الفعلية في الأزمة السورية لسنوات عديدة أثقلت كاهلها بأعباء اقتصادية وعسكرية وسياسية لم يعد بإمكانها الدخول في مشكلات سياسية وعسكرية جديدة. ومن المعروف عن إيران أنها لا تتدخل مباشرة في مشكلات خارج حدودها، بل تحرك الجماعات التابعة لها في المنطقة نيابة عنها، غير أن الجماعات هذه مشغولة بمعاركها الطائفية في العراق وسورية، مما يفقد إيران إمكانية التحرك ضد قرار كردي كهذا بشكل فاعل. دخول إيران في تحالف مع روسيا أخيرا قيدها أكثر من السابق وجعل مواقفها ملازمة للمواقف الروسية التي أعلن سفيرها في العراق قبل أيام بأن روسيا لن تعارض إقامة دولة كردية، إذا ما قرر الشعب الكردي ذلك. أما معارضة أميركا لانفصال كردستان عن العراق فكان موقفا أدبيا أكثر من كونه سياسيا في التزامها بوحدة أراضي هذا البلد، غير أن المجتمع الدولي ومن ضمنه أميركا لا يستطيع الوقوف رسميا ضد خيارات الشعوب فيما إذا لجأت كردستان إلى الاستفتاء الشعبي، خاصة أن أميركا اليوم بأمس الحاجة إلى مزيد من الحلفاء لها في المنطقة بعد أن سيطرت إيران على حليفها العراقي في بغداد وأخرجته من فلكها. وإن كان وجود داعش يمثل عائقا أمام لجوء كردستان إلى خيار الاستفتاء ومن ثم الانفصال، فإن تطورات الأحداث في المنطقة أخيرا قطعت المجال أمام أميركا والغرب في استخدام ورقة داعش كـ"بعبع" لإيقاف الطموح الكردي، فأية هزيمة للقوى التي تحارب داعش على الأرض في العراق وسورية ستعتبر هزيمة وإهانة للتحالف الدولي نفسه، وكسرا لهيبته أمام العالم.

أما تركيا فمثلت دائما الطرف الإقليمي الأكثر معارضة لاستقلال كردستان، ورغم التغير الأيجابي الذي طرأ على الموقف التركي بعد أن تمكن إقليم كردستان من شرائه عن طريق الاقتصاد، إلا أن أية خطوة جدية لإقليم كردستان في هذا الصدد ستمثل صدمة حقيقية لها. ومع ذلك فإننا لا نتوقع أن يكون لديها ردود أفعال قوية إزاء هذه الخطوة لأسباب كثيرة من بينها:

-1 لن تستطيع تركيا التمادي كثيرا في معارضة هذه الخطوة، فهي مقيدة بسقوف معينة في مواقفها لوجودها ضمن الناتو وطموحها في دخول الاتحاد الأوروبي، خاصة إذا بوركت هذه الخطوة من الجماهير الكردية من خلال استفتاء.

-2 المشكلات السياسية بينها وبين روسيا والتي يمكن أن تصل في أي لحظة إلى صدام عسكري بينهما تحجم كثيرا من ردود الأفعال التركية على الاستفتاء، فتركيا لا تريد إثارة مشكلات تجعل من أطراف جديدة كـ"إقليم كردستان" تذهب باتجاه إقامة علاقات مع روسيا على حساب علاقاتها مع تركيا.

-3 تشعب الموقف التركي وتداعياته في الأزمة السورية أنهك هذه الدولة سياسيا ووضعها في مواقف سياسية محرجة أمام المجتمع الدولي.

-4 تركيا الآن تعمل على مبدأ "من يرى الموت يرضى بالسخونة"، فتركيا سابقا كانت تتوجس خيفة من إقليم كردستان، بينما هي الآن تواجه احتمالية نشوء كيان كردي آخر جديد في سورية. ولذلك سيكون من الصعب عليها استقطاب الكرد في الدولتين ضدها، خاصة أن علاقاتها مع إقليم كردستان هي علاقات جيدة.

-5 تركيا وبسبب انشغالها بمشكلاتها الداخلية لن يكون بإمكانها فتح جبهة عسكرية أخرى مع إقليم كردستان.

6-احتياج تركيا إلى النفط والغاز الكردستاني "بعد تدهور علاقاتها مع روسيا" يجعلها تفكر ألف مرة قبل الإقدام على هجوم عسكري ضد الإقليم الكردي.