تتلون الأفكار والأحلام والأماني بألوان زاهية وتحلق في فضاء الحياة حتى تحرقها شمس فتغير بهاءها أو تفجرها خيبة فلا تقوم لها قائمة.

تخيلوا معي لو وقف كل المبدعين أمام العقبات التي واجهتهم لكنا ما نزال في العصر الحجري لم نستكمل أدواته بعد، فمن أصعب الأمور تحويل الصخور يدويا لأدوات فاعلة في الحياة؛ وما دام الشيء بالشيء يذكر فيروى أن رجلا في إحدى القرى التابعة لمنطقة الرياض كان يقضي وقتا طويلا يصنع أدوات حجرية لطحن الحبوب وكانت تأخذ منه عملا مضنيا لأيام يقضيها منفردا في الجبل، إلا أنه بعد الانتهاء منها وقبل أن يحملها تسرق ولم يعرف من السارق إلا بعد زمن طويل عندما شاخ وقبل موته جاء صاحبان له يطلبان منه السماح ويعترفان له بالسرقة فقد كانا يفعلان ذلك لأنهما يطمعان فيما يصنع ولا يريدان العمل الشاق مثله!

كانت تلك مقدمة للعودة للبحث عن فكرة تغير الحياة للأفضل؛ علما بأن الأفكار شائعة وغير محدودة، إلا أن بذل الجهد لتحويلها إلى واقع معاش هي المعضلة الحقيقية، خاصة أننا نتآلف مع السائد ونخشى التغيير.

الإنسان أثمن ما على الأرض، والاقتصاد وهو عصب الحياة، وحياة البشر قائمة عليه؛ وعشنا تجارب عربية وعالمية في القرنين العشرين والحادي والعشرين أقل ما يقال عنها مدهشة ولنختبر تجربة تعرفونها جميعا هي تجربة شركة جوجل وسآخذ منها جانبا محددا هو بيئة العمل فيها المصنفة أسعد بيئة عمل في العالم منذ سنوات ومن مميزاتها توفير كل ما يحتاجه الموظف والسماح له بإحضار أطفاله أو حتى حيواناته الأليفة؛ ويوما عن يوم تتزايد إبداعاتهم وتجديداتهم وأفكارهم الخلابة ويتنامى اقتصاد الشركة وأظن السبب بيئة العمل المدهشة التي صنعت للموظفين نعيما على الأرض لا يجعل لأذهانهم شغلا شاغلا خارج العمل؛ بيئة العمل التي خلقتها جوجل نموذج للخيال عندما ينزل باذخا إلى سطح الأرض؛ وليس من العدل المطالبة بمثل ما توفره جوجل، لكن لا يعقل أن تغيب عن بيئة العمل لدينا حاجات ملحة كتوفير حضانات.

لنتكلم بشكل واقعي، ما حدث من اعتداءات على الأطفال على يد الخادمات سواء ما عرف وانتشر، أو ما خفي وكان أعظم هو نموذج لما تحمله كل أم تخرج للعمل أو لغيره وتترك أطفالها بين يدي الخدم؛ ولو لم يحدث لها ولأبنائها أي مكروه فشبح الخوف عليهم يطاردها ليل نهار ويستنزف ذهنها ويقلل من إنتاجيتها ويزيد من كثرة غيابها عن العمل.

طرح الأستاذ داود الشريان في "ثامنته" موضوع الحضانات التي كان يفترض توفيرها في المدارس منذ ثلاثة أعوام، وكشف البرنامج عن عدد قليل تم إنشاؤه منذ صدور القرار وهو عدد لا يغطي الحاجات الفعلية.

بداية، يفترض في ظل هذه الظروف أن يكون وجود الحضانة ملزما للمدارس التي تستقبل طالبات العرب والأجانب وتتكبد الملايين لتعليمهم بالمجان أسوة بتعليم أبنائها، بل التعليم الذي يفتح أبوابه لاستقبال المنكوبين من الأولى استقبال فلذات أكبادنا خوفا عليهم؛ فغرفة الحضانة يجب أن تكون من مستلزمات المدرسة فلا تشقى الأم بطفل مرض وتريد رعايته والاطمئنان عليه فتحضره معها وتبقيه بها لتطمئن عليه؛ كما لا تضطر إلى تركه عند امرأة بدون إقامة نظامية لا تعرف حتى اسمها الحقيقي وهذا ما نفعله موظفات أغلقت أبواب استقدام خادمة في وجوههن!

وقد سبق لي تجربة الحضانة في المدرسة لسنوات وكانت تجربة ممتازة عندما عملت مدرسة بمدينة البدائع وكانت المعلمات والمديرة والمساعدة يضعن أطفالهن بها.

أعرف أن كثيرا من المديرات لهن مخاوف من مشاكل أو تسيب تترتب على بقاء المعلمات في غرفة الحضانة، لكنها أهون بكثير من مشكلة غياب الأمهات المتكرر عن العمل أو تعرض الطفل لإصابة أو خطر؛ كما يمكن متابعة الحضانة بكاميرات مراقبة لضبط الأمور.

الجانب الثاني دعم المشاريع الصغيرة الخاصة لإنشاء حضانات نموذجية قريبة من مجمعات المدارس؛ وذلك بتقديم تصور لما يجب أن تقوم به الحضانة وتوفره؛ وهذا مشروع رائع يمكن للمؤهلات القيام به ولا يتطلب إلا أن تكون صاحبته أو مديرته ذات مؤهل تربوي. تحكي امرأة بعد تقاعدها أنها حولت بيتها لحضانة غير مرخصة تستقبل أطفالا فاق عددهم العشرة، وأنها أصبحت تحقق دخلا يفوق راتبها التقاعدي. فيا أيتها النساء المؤهلات للعمل المحبات للتعامل مع الصغار فكرن في هذا المشروع ولو بدأتن بأطفال المعارف، ثم يمكنكن تطويره باستمرار لتصلن إلى حضانات نموذجية جاذبة للأطفال تطمئن المرأة في أي وقت تترك فيه أطفالها بها وتقدمن خدمة لا تقدر بثمن لأمهات عاملات؛ ومركز الخدمة الاجتماعية له خبرة طويلة في هذا المجال يمكنكن الاستفادة منها.

الجانب الثالث في الموضوع أن الحضانات السعيدة يبدأ الطفل فيها بالتعامل مع أطفال غيره ويتخاطب بلغة سليمة مع الحاضنة، بدلا من البقاء معزولا مع امرأة هي في الأصل خادمة لها لغتها وعليها أعباء كثيرة.

من هذا المنطلق توفير هذا الأمر يربي أطفالا في بيئات آمنة وسليمة من التحرش أو الأذى أو الإهمال؛ فهل هذا الحلم المشروع عزيز المنال يا أصحاب الحل والعقد؟!