تحدثنا عن التعريفات المختلفة للحضارة، ثم تطرقنا لمفهوم الحضارة عند مالك بن نبي حيث يراها نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ وقد اتبع المفكر الكبير مالك بن نبي المنهج التحليلي، فحلل الحضارة إلى عناصرها الأولية والتي اعتبرها الرأسمال الأولي، وصاغها بخلفيته الهندسية إلى معادلة رياضية (ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت).

واتبع هذا المنهج بالمنهج التركيبي.. واعتبر الحضارة بناءً والعناصر الثلاثة تبقى ساكنة ما لم تتدخل ما أسماها بالفكرة المركبة أو (مركب الحضارة). (وهو العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض).

ويرى مالك بن نبي أن الحضارة تولد مرتين، الأولى: تكون ميلاد الفكرة الدينية. والثانية: تسجيل هذه الفكرة في الأنفس أي دخولها في أحداث التاريخ.

ويقول "وقد جمعت المدينة الإسلامية بين مولدين في آن واحد، والسبب في ذلك هو الفراغ الذي وجدته الفكرة الإسلامية في نفس رجل الصحراء العربي في بيئة عذراء لم تنشأ فيها ديانة أو ثقافة سابقة".

ومن منطلق أن الفكرة الدينية تؤلف بين العوامل الثلاثة (من إنسان وتراب ووقت) لتركب كتلة تسمى في التاريخ (حضارة) فإني سوف أفصل في العناصر الثلاثة وكيف تسهم في بناء الحضارة.

يبدأ مالك بن نبي في التحدث عن قوة الإنسان كعامل في بناء الحضارة بالتركيز على جزئية الروح: تلك الروح التي توقدها الفكر الدينية: الروح التي تتحدى بلغتها الدم واللحم: ويقدم مثالاً لهذا التحدي للطبيعة البشرية بسبابة الصحابي الجليل بلال: فيقول "كأن ذلك الصحابي كان يتحدى بسبابته المرفوعة الطبيعة البشرية ويرفع بها في لحظة معينة مصير الدين الجديد، كما أنها هي نفسها تتحدث بصوت تلك المرأة (المرأة الزانية) التي أقبلت إلى الرسول لتعلن عن خطيئتها وتطلب إقامة حد الزنا عليها".

ثم يبين أن الفرد يؤثر في المجتمع بثلاثة مؤثرات: أولاً بفكره وثقافته، وثانياً بعمله، وثالثاً بماله. وبذلك فإن بناء الحضارة يقتضي توجيه الإنسان في النواحي الثلاث: توجيه الفكر (الثقافة) وتوجيه العمل وتوجيه رأس المال.

ويتحدث عن عناصر جوهرية ضرورية لتوجيه الثقافة، وهي: التوجيه الأخلاقي، الذوق الجمالي، المنطق العملي، الصناعة (بتعبير ابن خلدون) أو الفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع.

ويعرف الثقافة بأنها مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته، كرأس مال أولي في الوسط الذي ولد فيه. والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته.

1 - التوجيه الأخلاقي: إن اهتمام مالك بن نبي بالأخلاق جاء من الناحية الاجتماعية لا من الناحية الفلسفية، ويسعى إلى تجديد قوة الترابط والتماسك الضرورية للأفراد في مجتمع ما يريد تكوين وحدة تاريخية.

ويؤكد أن الروح الخلقية هي منحة من السماء للأرض تأتي مع الأديان وتولد الحضارات: كما يشير القرآن الكريم في قوله تعالى "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَ?كِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".

بل والعجيب في الأمر أن كلمة دين (Religion) تعني في أصلها اللاتيني (الربط والجمع).

2- الذوق الجمالي: يقول مالك بن نبي (لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل، فلمنظرها القبيح في النفس خيال أقبح، والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة لا بد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره وأعماله ومساعيه).

ويقول (إن الأفكار بصفتها روح الأعمال التي تعبر عنها أو تسير بوحيها إنما تتولد من الصور المحسة الموجودة في الإطار الاجتماعي، والتي تنعكس في نفس من يعيش فيها. وهنا تصبح صوراً معنوية يصدر عنها تفكيره).

وبذلك فإن الجمال الذي ينطبع في فكر الفرد لا بد أن يوجد في نفس الإنسان نزوعاً إلى الإحسان في العمل. وهكذا فإن الجمال والذوق الجمالي منبع الأفكار التي تنتج الأعمال.

إنه الجمال الذي حرص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعد دفنه لأحد الصحابة حرص على أن يصلح القبر، وعندما سئل إن كان هذا يؤذي الميت فأجاب: لا. لكنها قذى لعين الحي.

وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله جميل يحب الجمال" وقوله تعالى "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ". فالله جعل من غايات النجوم كذلك الزينة. وقال تعالى "ولَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ".

ويربط بين المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي في المعادلة فيقول (مبدأ أخلاقي + ذوق جمالي = اتجاه حضارة)، فيقول (إن هناك على الخصوص صلة بين المبدأ الأخلاقي وذوق الجمال، تكون في الواقع علاقة عضوية ذات أهمية اجتماعية كبيرة، إذ إنها تحدد طابع الثقافة كافة واتجاه الحضارة، حينما تضع هذا الطابع الخاص على أسلوب الحياة في المجتمع وعلى سلوك الأفراد فيه).

إذ إن التزاوج الصحيح بين مبدأ الأخلاق والذوق الجمالي هو الذي يحدد وجهة الحضارة وثقافتها الغالبة.

فالثقافة التي تعطي الأولوية للمبدأ الأخلاقي فقط وتهمل الذوق الجمالي تكون حضارة جامدة متحجرة غير متجددة، أما الثقافة التي تعطي الأولوية للذوق الجمالي على المبدأ الأخلاقي، فإنها تنشئ وتغذي حضارة منتهاها الفضائح وسوء الأخلاق باسم الذوق والجمال تارة وباسم حرية التعبير والفن تارة أخرى، وبذلك فإن أي خلل في علاقة الأخلاق بالجمال سيؤدي لا محالة إلى خلل في توازن كيان الحضارة.

3- المنطق العملي: ومعناه كيفية ارتباط العمل بوسائله ومعانيه ومقاصده، فلا يغلب على العمل اللا فاعلية فينقلب عبثاً وهباء منثوراً.

ويشير مالك بن نبي إلى أن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة: فيقول (فهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً بل أكثر من ذلك).

ولن توجه الحضارة إلى مقاصدها ومبتغاها وإلى صورها الناضجة المتقدمة إلا إذا كان جل أعمال أفرادها مرتبطاً بمقاصدها ومبتغاها، وإلا فالنتيجة الحتمية هي اللا فاعلية الفردية واللا فاعلية على مستوى المجتمع والتخلف.

4- الصناعة: وليس معنى الصناعة هنا هو المعنى الضيق المقصود به اللفظ بصفة عامة في البلاد العربية، وإنما تدخل في مفهوم الصناعة كل الفنون والمهن والقدرات وتطبيقات العلوم.

ويقدم لنا مالك بن نبي مثالاً للتقريب في حرفة الراعي، فالرعي صناعة كأي مهنة أو حرفة أو فن.

وإذا أردنا تقييم حضارة ما من خلال القيمة الاجتماعية لحرفة متواضعة مثل الرعي، فلنقارن بين هذه الحرفة في مجتمع ومجتمع آخر، ففي فرنسا مثلاً هناك مدرسة وطنية بمدينة (رامبولين) في ضواحي باريس وبنظرة سريعة للراعي الخريج من هذه المدرسة والراعي في بلادنا يقود كل منهما قطيعه، يسهل علينا أن ندرك الفرق بينهما.

وفي مقال قادم بإذن الله سنتحدث عن العنصرين الثاني والثالث في المعادلة الحضارية بعد الإنسان، وهما التراب والوقت.