وقفت السيدة تومسون في أول يوم تستأنف فيه الدراسة، ألقت على مسامع تلاميذها بالصف خامس جملة لطيفة تجاملهم بها:(إنني أحبكم جميعاً..)، كانت تستثني بداخلها تلميذاً متسخةٌ ملابسه ومنطوٍ على نفسه، لاحظته من العام السابق.

بلغ الأمر مداه نحو ذلك التلميذ في نفس المعلمة لمتعة في تصحيح أوراقه بقلمٍ أحمرٍ عريض الخط، وتضع عليها علامات x ، وبإمضاء "راسب" مع سبق الإصرار، بل والترصد!

وعندما همت بوضع سجل الدرجات الخاص به، راجعت ملفه كاملاً أنتابتها دهشة الفجأة!

فقد وصف معلم الطالب في الصف الأول بأنه طفل ذكي دمث الخلق ويتمتع بروح مرحة ويؤدي عمله بعناية واهتمام.

ومعلم الصف الثاني وصفه بأنه تلميذ نجيب ومحبوب، لكنه منزعج وقلق بسبب إصابة والدته بمرض عضال، مما جعـل الحيـاة معاناة في منزله.

أما معلمه في الصف الثالث فذكر أن لوفاة أمه وقعا صعبا عليه.. فقد حاول الاجتهاد وبذل أقصى ما يملك، ولكن والده لم يكن مهتماً، وحياته في المنزل ستتأثر إن لم يتم تفادي ذلك.

بينما كتب عنه معلمه في الصف الرابع أنه تلميذ منطو على نفسه، وليس لديه دافعية نحو التعلم، أو الأصدقاء ..

هنا فقط رأت السيدة تومسون فيه ضوءاً خافتاً عندما كانت ترى فقط الظلام حالكاً حوله، استشاطت ندماً من تعاملها.. حتى بلغ تأزمها مداه عندما أحضر لها تلاميذها هدايا عيد ميلادها ملفوفة بطرقٍ أخَّاذة ماعداه الذي قدم هديته ملفوفة في ورق عشوائي داكن اللون!

تألمت السيدة تومسون وهي تفتح هديته، وانفجر التلاميذ ضحكاً عندما وجدت هديتها عقداً مؤلفاً من ماسات مزيفة ناقصة الأحجار، وقارورة عطر ليس فيها إلا ربعها فقط ..! لكن سرعان ما كف أولئك التلاميذ عن الضحك عندما عبَّرت السيدة تومسون عن إعجابها الشديد بجمال ذلك العقد ثم لبسته على عنقها ووضعت قطرات من العطر على معصمها.

لم يذهب التلميذ بعد الدراسة إلى منزله ذلك اليوم وانتظر لحظات حنان مفقود ليقابل السيدة تومسون ويقول لها: "إن رائحتك تذكرني بخلود رائحة أمي!".

انفجرت السيدة تومسون في البكاء، لأنه أحضر لها ماتبقى من زجاجة عطر أمه، ووجد فيها رائحة رحيلها الباقي!

بعدها أولت السيدة تومسون اهتماماً خاصاً به، وحينما بدأت التركيز عليه بدأ يستعيد نشاطه الكامن، وكلما شجعته كانت استجابته أسرع، وبنهاية السنة الدراسية، أصبح من أكثر التلاميذ تميزاً في الفصل، بل أبرزهم ذكاء.

وبعد مضي عام وجدت السيدة تومسون مذكرة عند بابها للتلميذ، يقول فيها: "إنك أفضل معلمة قابلتها في حياتي".

مضت عدة سنوات دون أن تتلقى أي مذكرة أخرى منه. ثم كتب لها أنه أكمل المرحلة الثانوية، وأحرز المرتبة الثالثة في فصله، وأنها حتى الآن لم تزل تحتل مكانة أفضل معلمة.

وبعد انقضاء أربع سنوات، تلقت خطاباً آخر منه يقول لها فيه :" إنه مقيم في الكلية لا يبرحها، وإنه سوف يتخرج قريباً من الجامعة بدرجة الشرف الأولى، وأكد لها كذلك أنها أفضل وأحب معلمة عنده حتى الآن".

وبعد سنوات، تلقت خطاباً آخر منه، وفي هذه المرة أوضح لها أنه بعد أن حصل على درجة البكالوريوس، قرر أن يتقدم قليلاً في الدراسة، وأكد لها مرة أخرى أنها أفضل وأحب معلمة قابلته طوال حياته، ولكن هذه المرة كان اسمه طويلاً بعض الشيء، دكتور ثيودور إف. ستودارد!

لم تتوقف العلاقة الاستثنائية، فقد جاءها خطاب آخر منه في ذلك الربيع، يخبرها بأنه سوف يتزوج، وكما سبق أن أخبرها بأن والده قد توفي قبل عامين، وطلب منها أن تأتي لتجلس مكان والدته في حفل زواجه.

حضرت حفل الزواج مرتديةً عقد والدته وماتبقى من الماس حنانها متعبقةً عطرها، واحتضن كل منهما الآخر، وهمس (دكتور ستودارد) في أذن السيدة تومسون :" أشكرك على ثقتك فيّ، وأشكرك على أن جعلتيني أشعر بأنني مهم، وكيف يمكن أن أكون متميزاً".

فردت عليه السيدة تومسون وهي غارقة في دموعها: "أنت مخطئ، فأنت من علمني كيف أن أكون معلمة متميزة، لم أكن أعرف كيف أُعلِّم، حتى قابلتك فقط".

بقي أن نعرف أنها القصة الحقيقية لتيدي ستودارد هو الطبيب الشهير صاحب أفضل مركز لعلاج السرطان الآن على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية.

تلك الشخصية تحولت من الإغراق في (مشروع) الفشل إلى أقصى النجاح محض صدفة فقط لُمح فيها ضوءاً خافتاً على جوانبها الخارجية والداخلية المظلمة عمقاً ذاتياً تحولت إلى إنجاز إنساني اتجه إلى إبداع يمد البشرية بكل طاقاته الكامنة، في مجتمعنا ومدارسنا كثير من هم على شاكلة الدكتور (ستودارد)، فكم من إنسانية فقدت، وموهبة قتلت في عقر عقلها وذاتها وبقيت محاصرةً بين الخذلان والإحباط؟.

وعلى ضوء تلك القصة سنمنح أجزاءً (لعلمٍ إنساني) مهمل لم تعرفه مدارسنا أو مناهجنا ضاقت به المساحة في مقال قادم بإذن الله.