منذ بدايات تكشف أسباب قضية الصديق التشكيلي أشرف فياض قبل أكثر من عام، وأنا أهجس بقضية إنتاج الدلالة النصّية، وأتساءل عمن يملك الحق في تفسير النصوص؟

تحول هذا الهاجس إلى قراءات في النظرية التأويلية الحديثة، ونتيجتها أن القارئ يؤول وينتج المعنى بما يتلاءم وظروفه وثقافته بمعنييها: المعرفي، والاجتماعي.

هذه القراءات جعلتني سريع الاستفزاز ممن يحكم على النصوص انطلاقا من فهمه الخاص لنص إبداعي حمّال أوجه، وقابل لعدد غير محدود من التأويلات، بحكم اشتماله على كثير من أدوات المجاز اللغوية والتصويرية، وذلك – نظريا – يجعله نصا لا نهائي التأويل، ويجعل تأويل مجتزأ منه جريمة أخلاقية، في حال كان تأويل المُجتزأ بهدف الإدانة، وافتراءً على الله في حال كان التأويل لمجتزأ من نصّ قرآني؛ لأن السياق العام للنص كاملاً هو الدال الأدق على كون أحد التأويلات، أقرب إلى الصواب من غيره.

هذا ما جعلني أخرج عن طوري، قبيل نهاية أمسية شعرية في أدبي أبها الأسبوع المنصرم؛ ذلك أن أحد الأصدقاء الحاضرين علّق على ما سمعه من الشاعر حسن القرني تعليقا يتضمن التهديد بعرض نصوصه على القضاء، وهي النتيجة التي لم يصل إليها أحد من أكثر من 50 شخصاً حضروا تلك الأمسية.. فهل يُعقل أن فهمه كان عميقا متجاوزاً لأفهام الحضور وقدراتهم على سبر أغوار النصوص، وجلهم شعراء وأدباء ونقاد معروفون على مستوى الوطن العربي؟ أم أنه أوّلَ أجزاء من النصوص بما يتسق مع ظروفه وقدراته وأهدافه وثقافته بشقيها؟

النظرية التأويلية الحديثة يمكن أن تهبنا طرف خيط يقودنا إلى الإجابة؛ إذ إنها تجعل المتلقي هو المسؤول عن إنتاج المعنى، لا المرسل، وهذا يفسر لنا – مثلا – التفاوت الكبير بين المستدلين بالقرآن الكريم، تفاوتا يجعل الآية الواحدة تُنتج دلالاتٍ متضادة يستحيل جمعها، ومن ذلك استحالة التوافق بين قراءات الدواعش واستدلالاتهم ومن سار على نهجهم من القاعديين وبعض المتحزبين والمتعصبين، وقراءات واستدلالات آخرين من العلماء والمفكرين المخلصين للفكرة المجردة والنص القرآني، لا المتفانين في إثبات كفر غيرهم، وتنزيه أنفسهم ومذاهبهم من خلال النص القرآني نفسه.. وشتان بين الفريقين في آليات وأهداف إنتاج الدلالة، وبالتالي في النتائج والسمات؛ فالأول "فرداني" عماده جهد الفرد العارف العالم المتبصر المستقل الخلاق المنتصر للمعرفة، والثاني "عصابي" هدفه الانتصار للفئة أو التيار أو الحزب أو المذهب أو حتى "الشلة"!

حين يكون المتلقي – بحسب هذه النظرية - مسؤولاً عن إنتاج المعنى، وحين ينتمي إلى الفريق الثاني "العصابي"، فإنه سيعمد إلى الاجتزاء، لتأكيد صحة ما يراه فريقه، أو تبرير ما يفعله تياره، والاجتزاء هو أسوأ أنواع التعامل مع النصوص، وأكثرها تهورا وظلما.

إن الجهل بشروط التأويل سيجعل التكفير العشوائي نقمة عامة تشمل كل من شهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، دون استثناء، مما يقحمنا في هوة سحيقة، تُبرّر فيها – بالنصوص المجتزأة - أنواع الجرائم ضد الإنسان كلها.