حينما كنت قصيرا (شبر ونص) كما يقال، ومثلي كل أقراني! كنت أقترب من الأرض ومن الشجر ومن الحجر ومن البشر، أغوص كثيرا في كل شيء وأتابع التفاصيل، ذلك لأني كنت قصيرا! أمرح في داخلي، وأرقص نشوان بين أضلعي ذلك، لأني كنت قصيرا! تتسارع خطواتي خلف والدي أضعاف خطوته الواحدة، فأركض خلفه لأن خطوته عشرات خطوتي، لأني كنت قصيرا. أتابع كل الزهرات حين ترتعش خوفا من الرحمن في جوف الصخر، فلا يرى ارتعاشها ولا يمس قلقها سواي، ذلك لأني كنت قصيرا! أجوب طرقات أبها في حارات القرى ومناظر والمفتاحة عبر منحنيات وتعرجات ضيقة، لكنها مليئة بالأنس وبحكاوي العجائز القابعات أمام منازلهن ساعة كل عصر، يحكين تاريخا عَبَر بذكريات وعِبَر الماضي، فألمح في أعينهن نشوته المجيدة. وحينما يأتي المساء أرتدي معطفي الشتوي وأربط منديلي الأصفر حول رأسي والذي يميز بنات جنسي في مدينتي، لأذهب مع والدي إلى ساحة البحار لأشاهد السينما المقامة كل ليلة في تلك الساحة.

 لكننا حينما صرنا طوالا ارتفعت رؤوسنا فابتعدنا عن تفاصيل الحياة، وانتفخت ذواتنا، وتورمت  حتى صارت أضعاف أضعافنا! واعتقدنا أننا عباقرة الكون بأسره.

أصبحت سمة الحوار بينا صراخا متداخلا فجا مقاطعا محتجا ومنكرا لأي صوت آخر، فانتفى كل وضوح للرؤى، وتقلصت المفاهيم، وأوغرت الصدور، فأصبحنا نتلمس الطريق في ظلمة فكرية لا تلوي على شيء سوى الشتات والتشتت، والتعالي على الآخر، والتِّيه في مفازة العصر الجديد.

لقد فقدنا الحس الراقي حينما أصبحت حواراتنا جلها تتسم بالإقصاء والاستبعاد، والاستفزاز، والعنف، والتشويه والتقليل من قدر بعضنا بعضا، في صراع مستميت لفرض الرأي الواحد، ذلك لأننا أصبحنا طوالا.