لا بد وأنك قد احتجت وأنت في طريق سفر أن تتوقف عند محطة وقود أو تموينات أو مطعم، فوجدت أن كل شيء مغلق للصلاة، ما دعاك لأن تنتظر لما بعدها، مع أنك ربما جمعت الصلاة قصرا في محطة سابقة.

ولا بد وأنك قد احتجت إلى أن تأخذ غَرَضا من السوق لا يستغرق من وقتك سوى بضع دقائق، فاضطررت لأن تنتظر لما بعد الصلاة، مع أنك كنت راغبا في أن تصلي بمكان آخر قريب من صالة أفراح أو صديق أو قريب.

ولا بد وأنك قد راجعت دائرة حكومية فوجدت أن المكاتب مغلقة لما بعد الصلاة، رغم أنك لا تحتاج لأكثر من ثوان معدودة كي تستفسر عن أمر بسيط أو تستلم معاملة جاهزة.

وكذلك فإن من المناظر المألوفة أن ترى نساء جالسات على الأرصفة أمام المحلات في انتظار أن تنقضي الصلاة، ويزداد الأمر سوءا إذا كان المكان مكشوفا والأجواء سيئة، وقد يجلسن لما يزيد عن النصف ساعة، مع أن الصلاة لا تأخذ من الوقت أكثر من عشر دقائق، إضافة إلى أن الناس في عجلة من أمرهم كلما اقترب وقت الأذان، وقد يضطر بعض المتهورين لقطع إشارة أو القيادة بسرعة كبيرة من أجل أن يلحق بمحل أو دائرة حكومية قبل الإغلاق، وقد يتسبب في كارثة.

أرجو ألا يأتيني من يقول إني أهوِّن من شأن الصلاة، أو أدعو الناس إلى الانشغال بالدنيا على حساب الدين، ولكني أرى أن الإسلام جاء للتيسير على الناس لا التعسير عليهم، وما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، وإن من لم يدرك هذا المبدأ لم يعرف عظمة هذا الدين، فما شُرِع الجمع والقصر في السفر إلا من أجل التيسير على الناس، وما شُرِع التيمم إلا من أجل التيسير على الناس، وما أُعفي غير المستطيعين من الحج -الذي هو من أركان الإسلام- إلا تيسيرا على الناس، إذ لا يمكن للعبادة أن تعمل على تهذيب النفوس وترقيق الطباع وتحسين الأخلاق ما دامت أفعالا مجردة من الروح، وحين يتحول الدين إلى مجرد عبادات لا تنعكس على سلوك أصحابها يصبح محجوبا بأهله، لأنهم قد يصلون فلا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، وقد يدعون الناس إلى الزهد وهم غارقون في الملذات، وقد يدعون إلى العدل وهم أظلم الناس، وما أكثر الذين يدعون إلى حسن الخلق وهم أشد الناس إغراقا في البذاءة وسلاطة اللسان، إلى درجة أن الناس قد تجتنبهم اتقاء فحشهم، فمتى يدرك بعض الناس أن الغاية لا تبرر الوسيلة، وأن ترغيب الناس في الصلاة يستلزم تعظيمها في النفوس أولا، ليذهب الناس إلى المساجد مختارين لا خوفا من اقتيادهم بالقوة، أو خشية من سيارة الهيئة أو الشرطة، فمن يذهب إلى المسجد خوفا من أحد غير الله يُخشى عليه من النفاق، ولا يُدرى هل ستُقبل صلاته أم سترد عليه، لخلوِّها من الإخلاص، الذي هو أساس القبول في كل عمل.

من المؤسف أن كثيرا من الدعاة والوعاظ دأبوا على تذكير الناس بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إن هذا الدين يسر ولن يُشادَّ هذا الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا"، لكنهم يتصرفون على العكس من هذا تماما، فما من فسحة في الدين إلا عملوا على تضييقها، وما من فرجة فيه إلا حاولوا سدها بشتى الطرق، فما لم يستطيعوا تحريمه بلي أعناق النصوص حرموه بقاعدة "سد الذرائع"، وكأن المطلوب من الناس أن يحفظوا أوامر دينهم بلا تطبيق، أو أن الدين مجرد عبادات وأقوال لا تستخدم في غير المناظرات والدعوة إلى الإسلام أو الدفاع عنه، فهم قد اعتادوا على ازدراء التشدد والكهنوتية في الأديان الأخرى، مع أنهم في الواقع حولوا الزهد من أفضلية إلى واجب، وصوروه في تحريم الطيبات وكف النفس عنها، كما أخذوا من الأقوال الفقهية أشدها ثم فرضوها على الناس، وكل من لم يأخذ بها قالوا عنه: إنه يحارب دين الله ويدعو إلى إفساد الناس! بل وصلوا مرحلة في تقديس مراجعهم والاطمئنان إلى رأيهم حتى يُخيَّل إليك أنهم بإيمان أبي بكر وعمر!

صحيح، أنهم بذلك قد أشاعوا الزهد بين الناس، لكنه زهد مزيف يذهب بأصحابه إلى مكاتب العقار أكثر مما يذهب بهم إلى المساجد، ويدعوهم إلى الانتصار لأنفسهم أكثر مما ينتصرون لله، ويعلمهم استخدام الدين أكثر من خدمته، وما دروا أنهم بهذه الأفعال إنما يشوِّهون الدين ويصعِّبونه على الناس، كما أنهم بهذه الأعمال قد حجبوا عن الناس سماحة هذا الدين العظيم، بل زعزعوا إيمان المسلمين أنفسهم، عندما صوروا لهم دينهم على أنه أصعب دين على وجه الأرض، ولا حول ولا قوة إلا بالله!