تحدثنا في مقال سابق عن العنصرين الثاني والثالث في المعادلة الحضارية بعد الإنسان، وهما التراب والوقت، ورأينا كيف تحدث مالك بن نبي عن التراب من حيث قيمته الاجتماعية، وأكد أن هذه القيمة مستمدة من قيمة مالكيه، (فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة وحضارتها متقدمة يكون التراب غالي القيمة، وحين تكون الأمة متخلفة – كما هي الآن – سيكون التراب على قدرها من الانحطاط).

أما عن الوقت، فالقيمة الحقيقية للزمن تنبع من القيمة التي نعطيها نحن للزمن، هذه القيمة التي لن تجدها إلا في فكر ونفس كل فرد من أفراد الشعب، وليس من وسيلة لمضاعفتها إلا بالتعليم والتربية، وذلك بأن نعلم الفرد المسلم علم الزمن حتى يصبح رأس المال الحقيقي هو دقات الثانية والدقيقة. إنه مفهوم الزمن الداخل في تكوين كل فكرة وكل نشاط وفي تكوين المعاني والأشياء.

يقول مالك بن نبي (وستثبت نصف الساعة هذه عملياً فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع وفي سلوك أفراده، فإذا استثمر الوقت هكذا فلم يضع سدى ولم يمر كسولاً في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة).

إن أوقع مثال لما يمكن أن تتحول إليه قيمة الزمن إنما يتجلى في أوضح صوره عندما تمتزج قيمة الزمن بغريزة المحافظة على البقاء في ساعات الخطر في تاريخ الفرد والجماعة، وعندما تستيقظ هذه الغريزة.. غريزة البقاء.. غريزة الحياة، فإن قيمة الزمن تتضاعف لتصبح هي الحياة وجوهر الحياة.

إن معادلة مالك بن نبي الهندسية للحضارة (الحضارة = الإنسان + تراب + وقت) تجعله أهلاً أن يلقب بمهندس الحضارة. فقد عبر عن كل منتوج حضاري بهذه المعادلة الأساسية (المنتوج الحضاري = الإنسان + تراب + وقت) وإذا كتبنا هذه المعادلة لكل منتوج من منتجات الحضارة من أبسط الأعمال إلى أعقدها، من أصغرها إلى أكبرها فسيتكون لدينا جدول كامل من المعادلات الواحدة تلو الأخرى..

منتوج حضاري أول = حضارة + إنسان + تراب + وقت

منتوج حضاري ثان = إنسان + تراب + وقت ... إلخ

منتوج حضاري أخير = إنسان + تراب + وقت

وعند جمعها عمودياً كما نفعل في علم الجبر سننتهي إلى مجموع منتجات حضارية = مجموع إنسان + مجموع تراب + مجموع وقت.

حيث إن معادلته فيها استلهام من فكر ابن خلدون في التعاقب الحضاري وتوينبي في مفهوم الاستجابة الكامنة للتحديات خلف بناء الحضارات، وقد وازن بين الأبعاد الأفقية والعمودية. الأفقية في أهمية شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط الإنسان بمجتمعه، والعمودية وهي الحبل الذي يربط الإنسان بخالقه ومنهج السماء.

وقد أعطى مالك بن نبي الأولوية في أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارات، وبذلك فإنه ركز على البعد العامودي (علاقة الإنسان بالسماء كشرط رئيس على قدرة الإنسان على التفاعل مع البعد الأفقي). فتحدث عن منحنى الحضارات بتتبعه اطراد الحضارات، حيث تبدأ الحضارة بصيحة الروح.. بالوحي.. بالدين، ثم تنتقل إلى مرحلة العقل عندما تنشأ المشاكل المحسوسة للمجتمع الوليد نتيجة التوسع لتدخل في منعطف جديد.. إنه منعطف العقل، وبما أن العقل لا يملك ما تملكه الروح من سيطرة على الغرائز، فعندئذ تبدأ الغرائز في التحرر من قيودها، وتفقد الروح قدرتها على السيطرة على الغرائز تدريجياً على قدر ضعف سلطة الروح عليها، لتنتج إنساناً متفسخاً حضارياً ومختلفاً تماماً عن الإنسان الفطري الأولي الذي تلقى الرسالة السماوية الأولى. وهذا الإنسان أصعب للتغيير لبعده عن الطبيعة الفطرية المنسجمة والمستجيبة تلقائياً للنداء الروحي السماوي الرباني.

وهذا يتفق مع فكر الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه المرجعي "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" عندما يؤكد أن الذي يجعل مجتمعاً دون الآخر أقرب للروح والدين، ليس مدى ادعاء هذا المجتمع أو ذاك تطبيق الشريعة الإسلامية، على قدر بعد هذا المجتمع من أدوات العلمنة (من عقلية السوق والاستهلاك والإعلانات... إلخ). توثيق من الكتاب المشار إليه.

فقد يكون مجتمع ريفي بسيط في أرياف مصر أقرب لروح الدين، (وإن كان لا يدعي تطبيق الشريعة الإسلامية) من مجتمع آخر مدني سيطرت عليه أدوات العلمنة يدعي تطبيق الشريعة الإسلامية وهو بعيد عن روح الدين، بل أقرب إلى العلمانية الشاملة نظراً لتغلغل وتمكن أدوات العلمنة فيه، ونجاح هذه الأدوات في فصل الروح عن السماء وسيطرة احتياجات العقل ونزعات الشهوة والغرائز عليه.

ولذلك يرى مالك بن نبي أن الإنسان المتفسخ حضارياً يحتاج عملية تنقية لإعادته لحالته الفطرية الطبيعية لاستعادة طاقته المذخورة فيه، وقدم لنا مثالاً جميلاً لإنسان منحل حضارياً وإنسان خرج من طور الحضارة باستخدامه لعلم الطاقة المائية، وكيف أن الماء بعد خروجه من خزان ينتج الكهرباء يختلف تماماً عن حالته قبل دخوله، ويحتاج لعملية جوهرية تتمثل في عملية التبخر لترجعه إلى الحالة البخارية.. أي ترجعه إلى أصله وإلى طاقته المذخورة فيه في حالته الأصلية الأولية الطبيعية.

هذا هو الفرق بين الإنسان السابق على الحضارة المستعد لاستقبالها كما هو الحال في الإنسان البدوي الذي عاصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودخل في الحضارة، حضارة الإنسان التي أخرجت المعجزة من الإنسان في أسرع وأغرب وأعظم طفرة حضارية في تاريخ الإنسانية في أقل من عقدين من الزمان ليصبح هذا الإنسان البسيط مركز العالم، والسبب في ذلك هو أن مولد الفكرة وتسجيلها في الأنفس ودخولها في التاريخ حدث في آن واحد في الدين الإسلامي كما ذكرناه سابقاً وأوضحناه.

لقد كان فكر مالك بن نبي عن الحضارة فكراً صعب على كثيرين إيجاد فكر ومعادلة أفضل منه، نظراً لشموليته وعمقه في تحليل مشكلات الحضارة. وفي هذا يقول مالك بن نبي (فرأي رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني أن المشكلة سياسية تحل بواسطة السياسة، بينما رأي رجل دين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ، في حين أن هذه التشخيصات لا تتناول حقيقة المرض، بل تتحدث عن أعراضه، وقد نتج عن هذا أننا منذ عقود من الزمن لا نعالج المرض وإنما نعالج الأعراض).

فالمرض كامن في نفس المسلم ولا نستطيع تسطيح مفهوم الحضارة، بل إن هذا التسطيح في مفهوم الحضارة هو الذي جعلنا على مدى خمسين عاماً نكدس منتجات الحضارات الغربية، ظناً منا أننا بذلك سنحقق حضارة، بل وصل التكديس هذا إلى منتجات الحضارة في كل صورها حتى في الشهادات التي يكتسبها كثير من أبناء هذا الوطن وهم يتغربون من أجل تحقيقها والحصول عليها ليعود الواحد منهم متعالماً لا عالماً وهو أسوأ من الجهل. يقول عنه مالك بن نبي (إن هذا النوع من الجهل لأدهى وأمر من الجهل المطلق).

لأننا ندرك كيف نداوي من أصيب بمرض الجهل، أما المتعالم فمرضه أصعب، بل لا سبيل لعلاج مرضه، إنهم هؤلاء الذين اقتنوا العلم واكتسبوا الشهادات لا ليصبح ضميراً فعالاً يعملون به بينما ليجعلوه آلة للعيش والتكسب والترقي في المناصب. وهؤلاء عقبة حقيقية في سبيل تحقيق نهضة حقيقية وحضارة أصيلة.

وأنهي مقالاتي هذه عن النهضة بمقولة مالك بن نبي في مطلع كتابه شروط النهضة في الفصل الأول بعنوان دور الأبطال بقوله (إن مشكلة كل شعب في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها).