لا يمكن تحرير صنعاء طالما ظلت البيئة القبلية المحيطة بالعاصمة معارضة للشرعية. فهذه الكتلة السكانية تمتد من حدود تهامة إلى حدود مأرب والجوف، ومن صعدة وصولا إلى يريم في محافظة إب، وهي كتلة ارتبطت تاريخيا بالمذهب الزيدي بنسخته الهادوية، ولم تشكل عبر تاريخها كتلة متماسكة صلبة، وإنما شكلت عصبيات متنازعة تمنح ولاءاتها لحاكم مسيطر ولقائد قادر على استغلالها وحتى إهانتها، فقط عليه أن يتعامل مع مصالحها ويمنحها الغنائم الكفيلة بتلبية حاجاتها وفتح الأفق لنخبتها للعب أدوار قيادية تمكنها من تحصيل الغنائم، وظل الحكام يوظفونها في صراعاتهم ويثيرون النزاعات في هذا الوسط القبلي حتى يتحكموا به وحتى لا تتشكل أي عصبية جامعة، ليس في كل هذه الجغرافيا بل حتى داخل القبيلة الواحدة، ولا فرق بين العهد الإمامي والعهد الجمهوري.
شكلت هذه الجغرافيا طاقة قتالية فقيرة ومعزولة، وتم تجهيلها بشكل متعمد حتى تكون قابلة للتوظيف من قبل نخبتها القبلية والعسكرية والدينية، وعبر تاريخها كانت قابلة للاستغلال وتحريك عصبياتها وغرائزها، وهذا مكن القيادات من فرض هيمنة على بقية اليمن، ولذا ركز كثير من القوى المختلفة على تدمير سلطة ما يسمى بالمركز المقدس، أو بالأصح سيطرة نخبة هذه الجغرافيا على الحكم، وهذا أشعل كثيرا من العصبيات داخل هذه الجغرافيا وخارجها.
كان الخطأ أن مختلف القوى تعاملت مع هذه الجغرافيا باعتبارها كتلة صلبة مغلقة ظالمة لا مظلومة مثل بقية الجغرافيا اليمنية، فالغالبية العظمى من أبناء القبائل ضحية لاستغلال استمر مئات السنين، ولم تتمكن الجمهورية بعد إسقاط حكم الأئمة من تحرير هذه الجغرافيا من ثقالاتها التاريخية وقيودها القاتلة، وتمكنت الحوثية والرئيس السابق صالح من استغلال الحصار الذي خطط لتفكيك سلطة نخبة هذه الجغرافيا، وعملوا على التعبئة العصبوية لإعادة لملمة نزاعاتها وتناقضاتها، فالقبيلة في هذه المناطق من ناحية فعلية تصدعت، ولم تعدّ قادرة على بناء عصبية جامعة على مستوى القبيلة الواحدة، وقد لعب صالح دورا في تفكيكها إلا أن الانفجار السياسي الذي أفرزته عاصفة المطالبة بالتغيير وخسائره المتلاحقة جعلته مع نخبة المؤتمر يعيدون ترتيب أوراقهم فيما يخص إعادة بناء هذه الكتلة السكانية.
وملاحظة جديرة بالاهتمام فقد ظل صالح وجماعة الحكم المرتبطة به يبحثون عن قوة مضادة للإخوان ذات طابع ديني بعد 1997، وكانت النتيجة بعد تداول في دوائرهم إضعاف الإخوان ومرتكزاتهم، وإنهاء كل ما له علاقة بهم في الجغرافيا الزيدية، وإضعافهم في بقية المناطق في الشمال والجنوب، وبناء تشكيلات عسكرية وأمنية غير قابلة للاختراق، وتم الدفع بأحمد علي نجل صالح إلى الاحتراف العسكري بعد أن رشح نفسه في الانتخابات النيابية عام 97م، ثم فرض صالح سيطرة كاملة على المؤسسة الأمنية والعسكرية من خلال أقاربه باعتبار العسكرة هي مصدر القوة القادرة على ضبط الصراع على القوة، ودخلت التشكيلات الهاشمية الزيدية في هذه المرحلة، ولعبت صراع القوة عبر المؤامرة المتشعبة، وركزت على إضعاف الإخوان مع فتح جبهات مع صالح، وتكتيل قوة معارضة قادرة على مواجهته سياسيا، وتمكنوا في نهاية الأمر من سحب الإخوان إلى تكتل معارض قوي (المشترك)، ومع بناء قوة عسكرية وأمنية ضاربة محكومة من عائلة صالح اتضح للإخوان أن كل مخططاتهم انتهت في المراهنة على الأمن والعسكر، وأصبح ظهر صالح محميا.
لم يتصور صالح أن الانتفاضة الشعبية ضده سوف تتمكن من إخراجه من الحكم ولا تصفية عائلته من مراكز السلطة الأمنية والعسكرية، وهذا ما جعله يعيد ترتيب أوراقه ويعيد تقييم الموقف، لذا راهن بشكل كامل على الجغرافيا الزيدية بأبعادها القبلية والمذهبية والعسكرية والمالية مع إحياء تحالف سياسي ممتد لتصفية خصومه داخل منطقة القبائل أولا.
ما كان للقبيلة أن تعيد لملمة صفوفها وترتيب أوراقها ما لم يتم ضخها بأيديولوجيا ذات بعد مذهبي، لذا شكلت الحوثية الركيزة الأساس في معركته، وهذه الفكرة كانت خلاصة للنخبة الهاشمية الزيدية التي رأت أن صالح غير جدير بالحكم إلا أن إمكانية استغلاله للوصول إلى إعادة مركزة السلطة بأيديهم ممكنة، دفعت صالح باتجاه الحوثنة بعد المطالبة بالتغيير التي أفرزتها اليمن، وكان لأبناء القبائل دور قوي في الضغط على منظومة صالح، وعمل على تصفية كل ما له علاقة بالإخوان والسلفية في هذه الجغرافيا، وكل ما يشكل قوة مضادة بإمكانها أن تحرك مقاومة ضد الاجتياح الحوثي إما بالتصفية أو التحييد أو شراء الولاءات.
كان لدى صالح قناعة تامة بأن الهاشمية السياسية وبالذات ببعدها الزيدي هي المنافس الفعلي للعسكر ولشيوخ القبائل وللسياسيين الذين أنتجتهم الجمهورية في هذه المناطق، وعمل بشكل جاد وبتركيز كبير على احتوائهم وتوظيفهم في صراعاته مع أركان حكمه من آل الأحمر وعلي محسن وتيار الإخوان المسلمين وبعض النخب الحزبية التنويرية، وفي الوقت نفسه عملت الهاشمية الزيدية على التوغل في الأجهزة والمؤسسات، واخترقت أغلب دوائر صناعة القرار، واشتغلت على فكرة محورية في بداية الأمر، تفكيك التحالفات الصلبة التي شكلها نظام صالح، وإدخالها في نزاعات دائمة حتى يتمكنوا من الاستفراد بهم، لذا اشتغلوا داخل هذه التناقضات، وأسهموا في تفجير الصراعات، ولم تكن الحوثية إلا الجناح العسكري الذي تم بناؤه بتعاون مع إيران، وتم استغلال القذافي أثناء تبنيه لاتجاهات عدائية ضد المملكة العربية السعودية، وكانت الملشنة والأدلجة التي أنتجتها الحوثية هي المحفزة لتعبئة الهاشمية الزيدية وطريقا لبناء تنظيم ديني في الوسط القبلي، وعملوا على تفجير صراع طائفي يمكن الكتلة القبلية من بناء هويتها باتجاه الولاء للهاشمية الزيدية، ولعبت الخبرة الإيرانية وحزب الله دورا محوريا في الدعم والإسناد.
قبل 2011 لم تتمكن الحوثية وأذرعها من تحقيق أي اختراقات قوية، لكنها بنت خلاياها في الوسط القبلي، ومع الانتفاضة الشبابية تمكنت من تفعيل دورها، وأسهم صالح في تحويلها إلى كتلة ثورية موازية لبقية الأحزاب، وتمكنت من خلال صراع الساحات من اختراق الوسط الثوري، وإعادة تلميع صورتها، وشرعنة وجودها في الأوساط الحزبية والمدنية والشبابية، ومنحها القدرة على الحركة والتنظيم في كل المحافظات.
لدينا أربعة أذرع اعتمدها صالح في إدارة صراعه داخل هذه الجغرافيا كمنطلق لإدارة حرب شاملة ضد بقية المناطق اليمنية، المؤتمر الشعبي العام، والعسكر، والقبيلة، والحوثية، كان خطأ صالح الاستراتيجي أنه سلم زمام الأمر للحوثية وأذرعها كعامل دفع عنيف لتصفية الخصوم، وبالأخير سلمها مداخل القوة المختلفة في البلاد عبر عمليات مشتركة انتهت بأن أصبح صالح نفسه رهينة لهذه الحركة وأداة من أدواتها، وأدخل الجميع في معضلة غير قابلة للحل إلا بالتخلص منه كمدخل أساس لتفكيك الحوثية، وهذا الأمر يقتضي أولا: تحرير المؤتمر الشعبي العام من الحوثنة ومن سيطرة صالح. وثانيا: إعادة تخليق قيادات تحرر القبيلة من السيطرة الحوثية، وتركز على تنميتها وإعادة بناء عصبيتها باتجاه يرسخ قوة الدولة ويعيد للهوية الوطنية لحمتها، أما الأهم فهو إحداث انقلاب في الوسط العسكري والأمني مضاد للحركة الحوثية، وتفكيك الذهنية التعبوية المعادية للعرب في الهضبة الشمالية.