عرفت وعايشت الدكتور أحمد القاضي –رحمه الله– في أميركا، وهو شخصية تستحق أن تدرس ويكتب عنها، وقد قررت أن أعطي الفكرة حقها من التفكير وشرعت في الدراسة والقراءة والبحث. وكما توقعت فإنني لم أجد ما يكفي من مراجع لأكتب بشكل متعمق ومستفيض عن الرجل، ولكنني في نفس اللحظة التي فكرت فيها أن لا أكتب عن الدكتور أحمد القاضي لقلة المصادر، قررت أن أكتب عنه لقلة المصادر.

السبب الذي كنت سأتخذه لأبرر لنفسي عدم الكتابة عن الدكتور أحمد القاضي، كان هو نفس السبب الذي جعلني أشعر بالمسؤولية والواجب تجاه هذا الرجل العظيم لأكتب عنه، بل عجبت كيف تقل المراجع والمصادر والدراسات عن رجل مثل هذا.

من هو الدكتور أحمد القاضي؟ معظم الباحثين عندما يبدؤون بحثهم بالتعريف عن شخص فإنهم يبدؤون بالتعريف بيوم ميلاده ومسقط رأسه وتعليمه وشهاداته وعمله، غير أن الأولى أن نبدأ بالأعمق في محاولة تعريف الإنسان بجوهره والتعرف إلى تلك الروح والنفس التي تنبض بالحياة بين أضلعه، فنحن لسنا يوم ميلادنا ولا مكان ولادتنا، نحن لسنا شهاداتنا ولا تعليمنا، نحن لسنا أشكالنا ولا ممتلكاتنا، وكلنا سندرك ذلك على فراش الموت، فالموت سيجردنا من كل شيء لسنا نحن، ولذلك يقال إن سر الحياة هو أن تموت قبل أن تموت لتدرك أنه ليس من موت، أي أن تميت الأنا التي فيك وأن تقتحم العقبة (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) عقبة الإنسان الحقيقية هي الأنا التي فيه، أن تقتحم سجن الأنا (الفردية) وأن تعيش حياتك من أجل غيرك، من أجل إطعام مسكين أو إيواء يتيم وخدمة ورعاية الآخرين، ولذلك سأحاول أن أعرف الدكتور القاضي من خلال قراءتنا لذاته ونفسه من خلال أقواله وأفعاله.

كيف يمكن لنا أن نعرف ذات إنسان؟ كيف نتعرف على نفسه وروحه التي بين أضلعه؟ إنني أؤمن وأعتقد أننا نستطيع أن نستقرأها من خلال مواقف في حياته ووصف من عاصروه لسلوكه وأخلاقه وخصاله.

يصفه الدكتور يحيى عبدالرحيم بقوله: "كان قائداً صلباً مربياً حنوناً قوي الشكيمة وقافاً عند حدود الله، سخي الدمعة من خشية الله في مواقف أكثر مما يسع المقال لذكرها، ولكنه فوق كل ذلك كان كريماً يقف حاتم العرب إجلالاً له، ولا أبالغ إن قلت إنني لم أر في عصرنا الحاضر ولم أسمع عمن هو أكرم منه عطاءً وأشد سخاءً.

قاد العمل الإسلامي في أميركا وارتقى به ليس بطروحاته النظرية، بل بترجمته لفكره على أرض الواقع بجهد وعمل دؤوب وصبر وعزيمة لا تعرف الخور، حتى ابتُلي بمرض عضال في سنواته الأخيرة، فصبر واحتسب مع تزايد ألمه، ومع مشاعر غيرة وطموح أسد في قلب وجسد أنهكه المرض والعجز، إلا أنه لم يكن منه إلا الاحتساب والرضا بأمر الله سبحانه وتعالى.

كان حرصه على الدعوة ليل نهار حرصاً لا يعدله شيء من حطام الدنيا، ولا يعرف القنوط إلى قلبه سبيلاً، يبث الأمل في النفوس حتى لو كان الألم يعتصره، كلما نظرت إلى صرح من صروح الإسلام في أميركا لا بد أن ترى بعض بصماته، من مؤسسات طبية واجتماعية ودعوية ومدارس ومؤسسات خيرية ومنظمات شباب، ستجد بدون شك أنه رائد من رواد تشكيلها أو تأسيسها أو دعمها. لقد كان بحق رائد العمل الإسلامي بأميركا، وكان بعيد النظر حتى وصفه الكثيرون بأنه ولد قبل عصره، فقد كان أول من نادى بتشكيل حركة إسلامية (ماس) والدعوة العلنية لله في أميركا".

أذكر بعضاً من مواقفه، وهي كما أسلفت أكثر من أن تذكر، وحدث ولا حرج عمن امتدت يداه البيضاء لمساعدتهم، والله أعلم بهم، من دعم مالي أو أوراق إقامة أو هجرة أو دعم معنوي أو خلافات زوجية.. أذكر يوماً أنه كان مشغولاً ومسافراً لحل مشكلة زوجية، وعندما سئل عن همه بهذه القضية، قال كيف لا وعمر بن الخطاب كان يلوم نفسه على بغلة عثرت على ضفاف دجلة لم يعبد لها الطريق، فكيف بمسلم ومسلمة مهدد منزلهما بالخراب، كيف لا أسافر إليهما؟

حاضرنا يوماً في أواسط 1989 وحدد لنا أن الخمس سنوات القادمة هي سنوات لتشكيل خمسين مدرسة إسلامية بأميركا، ولا يريد نقاشاً بالصعاب، لأن الأعمال العظيمة الصعبة لا يقوم بها إلا العظماء قائلاً: "إما أن تكونوا لهذا الهدف أو أن تفسحوا الطريق لغيركم". وإنني أشهد الله أنه خلال 10 سنوات تشكل بعلمي ما يقارب هذا العدد من كثير ممن حاضر بهم من أبنائه بالدعوة.

رأيته يوماً مهموماً لأنه لم يكن لديه ما يسدد رواتب المدرسين بالمدرسة، وليس لديه ولد واحد من أسرته بهذه المدرسة، لأن بناته أكبر من سن المدرسة، ولكن الطلاب عند الدكتور أحمد كانوا كلهم أولاده، كلهم أمانة في رقبته ولا ينتظر جزاءً ولا شكوراً من غير رب الناس، لذلك كان حلمه أن ينقل الخير والدعوة لكل منزل ولكل فرد في أميركا، أن ينقل الإسلام لكل قلب ينبض، ثقته بالله كانت مثلاً يحتذى، كم حدثنا عن عوض الله له بدلاً من الدرهم درهمين، لم يكن محاضراً، بل كان نموذجاً حياً للثقة بالله والفكرة التي آمن بها وعمل لها ومات عليها.

رأيته يوماً أعطى رجلاً 5 دولارات وكانت نصف ما يملك في ذلك اليوم، فكان كثيراً ما يطلب منه مال في آخر حياته وهو عاجز مالياً، فيحيل الطلب إلى الله قائلاً: يسألون الفقير العاجز ولا يثقون بالله الغني أو يسألونه، وإني على ثقة به لا تخيب.

شكوت له يوماً صعوبات دعوية وتحدثنا عن هموم مدرسته، فقال لي إن الله يحب العبد الشاكر ولا يحب العبد الشاكي، وإن القائد يبرز عند المحن والهموم، فاصبر واحتسب وشمر وتوكل على الله، وكنت أعلم بضيق حال يديه آنذاك.