ضحى الأربعاء قبل الماضي، أي لتسعة أيام خلت، كنت متوجهة من منزلي إلى مقر عملي. عند تقاطع طريق الملك عبد الله وشارع علي المرتضى، وهو التقاطع المشهور في حينا بإشارة بالبيد، توقف بي السائق مع بداية الإشارة الحمراء. تأففت قليلاً كما يتأفف كل مواطن أشَم عندما يقف عند الإشارات الحمراء. أحياناً يخيّل للمراقب أننا في قرارة أنفسنا نعتقد (ونتصرف) على أن الإشارات الحمراء إنما وضعت لغيرنا وليس لنا أيضاً. ولكن السائق كان يعرف فيما يبدو عن نظام "ساهر" العتيد وعن غرامة قطع الإشارة، لذا فقد توقف مع بدايتها غير عابئ بالاحتجاج القوي الذي سمعنا صداه من السائق الذي وقف على مضض خلفنا والذي كان يتوق لممارسة "حقه" الطبيعي في المرور عبر الإشارة الحمراء قبل أن يبدأ الخط الآخر في التحرك.
في الدقائق الاثنتين أو ينيف اللتين قضيتهما أرقب التقاطع عن كثب كان المشهد أكثر قيمة من الوقت المفقود بما لا يقارن. واستسمح القارئ الكريم أن أنقل له هذا المشهد بشيء من السينمائية الدقيقة.
كانت غرفة التفتيش التي تتوسط التقاطع قد بدأت تنفث حممها منذ عدة أيام. لا أستطيع التأكيد إن كانت تلك الحمم من مياه التحلية أو من مجاري الحي. ولكنها كانت على أي حال تجبر السائقين على الانحراف المفاجئ. ذلك الصباح كانت غرفة التفتيش هذه قد أحيطت (على غير العادة) بشريط أحمر وقد وقف بداخله ثلاثة عمال يتفاوتون فيما بينهم في البنية الجسمانية، و"ماكنة" يبدو أنها ماطور شفط. العمال الثلاثة كانوا يرتدون الزي الشعبي لإحدى الدول الآسيوية الإسلامية. أحد العاملين كان حاسر الرأس، و الثاني كان يلف شماغاً أحمر حول رأسه على شكل عمة تقيه حرارة أشعة الشمس الحارقة. أما الثالث فلا أذكر على وجه التحديد ما كان يعتمر فوق رأسه. العاملون الثلاثة كانوا يرتدون في أرجلهم شباشب (أعزكم الله) واحد منها من نوع "زنوبة" لمن يعرف هذا المصطلح الحجازي التليد. العامل الأقوى بنية كان منحنياً من الوسط (وليس عند الركبتين) ويزحزح بصعوبة غطاء غرفة التفتيش الحديدي الثقيل، كان يحركه خطوة تجاهه ثم يحرك رجله إلى الوراء لكي لا يسقط الغطاء الحديدي فوق أصابعه العارية فيحطمها. انطلقت بي السيارة ولم أكمل بقية المشهد.
هذا عن المشهد، فماذا عن الدلالة؟ هذه هي الدلالة بالنسبة لي. إن العمال حتماً لا يعرفون مبادئ السلامة الأساسية حول كيفية التعامل مع الأشياء الثقيلة، ولم يكلف المقاول الذي يستخدمهم نفسه عناء تثقيفهم حول مبادئ السلامة هذه، أو على الأقل توفير أساسياتها. لا يعتمر العاملون خوذات سلامة على رؤوسهم ولا يرتدون أحذية السلامة، ولم يكلف المقاول نفسه عناء (أو تكلفة) توفير خوذة أو حذاء عمل لعمّاله. لا يرتدي العاملون ِزي عمل موحد، ولم يكلف المقاول نفسه عناء (أو تكلفة) توفير بدلة عمل لعماله. لم يكلف المقاول نفسه عناء وضع لوحات تحذيرية قبل التقاطع تقول إن هناك عمالا يعملون، كما يتم في بلاد أخرى كثيرة لا نود التشبه بها. الأمانة، والتي من المفترض أنها هي من يمنح المقاول تصريح العمل، لا تطبق معايير عمل واضحة على مقاوليها ولا تراقب عملهم، هذا إذا افترضنا أنها تملك أصلاً مثل هذه المعايير.
هذه هي الدلالات بالنسبة لي، وقد تكون لدى القارئ الكريم دلالات أخر. ولكنها بالنسبة لي دلالات تتعدى ثقافة العامل أو جهله، وتتعدى جشع المقاول أو قلة اكتراثه، بل وتتعدى حتى مستوى رقابة الأمانة. إنها تتعدى ذلك كله لتتحدث همساً مدوياً عن مستوى حضاري غائب كنا نتمنى أن نحققه بل ونتجاوزه بمراحل كي نتمكن من تحقيق حلم الأمير خالد الفيصل للدخول إلى العالم الأول. فالعالم الأول ليس هو مجرد مبان وطرق وسيارات ومراكز تسوق بل هو الأنظمة والقوانين التي تحترم الإنسان وتحفظ كرامته وتصون حقوقه.