كتبت قديما عن نشوء ظاهرة الدرباوية والمقابل الموضوعي لها (مطوع الحارة)، حيث لخصت رؤيتي لهاتين الظاهرتين وفق معيار هشاشة الطبقة الوسطى، وهذا ينقصه الاستقراء والإحصاء ليعطي مصداقية من عدمها، فأوضحت أن القرى والأحياء التي تعيش على هامش المدينة، هي المدد الرئيس لهذين النوعين اللذين يتصفان بالعجرفة والصلف فالأول باسم (المرجلة) والثاني باسم (الدين)، وهو رد فعل مقابل لمظهرين من مظاهر المترفين الذين يعيشون داخل (متن) المدينة، فالدرباوي يبحث عن حيزه الاجتماعي في الشوارع الضيقة كمقابل موضوعي لأبناء المتن الذين يزحمون الشوارع الواسعة بسياراتهم الفارهة، والمطوع المتعجرف ابن الهامش الاجتماعي القادم من الريف أو المقيم على هامش المدينة يبحث عن حيز يليق بمزاجه التقليدي عبر التقاطع مع البرجوازية الدينية، ومحاولة محاكاتها إما بالدفاع عنها والانتساب إليها، باعتبارها نموذجا وحيدا للدين الحق، أو المزايدة عليها دينياً كي يجد له في هامشه الاجتماعي متكئاً يناسبه، لكن مدى الاحتكاك قليل بين الهامش بنوعيه (الدرباوي/المطوع التقليدي) والمتن بنوعيه، حيث يبقى فضاء الدرباوي والمطوع التقليدي فضاء ما تحت الطبقة الوسطى بقليل، وفضاء ابن المدينة المترف وفضيلة الشيخ ما فوق الطبقة الوسطى بقليل، ولا أتحدث عما دون خط الفقر، وما فوق خط الغنى السائد، فهما من المسكوت عنهما، أو بالأحرى "اللامفكر" فيهما بشكل يؤثر على إيقاع المجتمع.
ما يضاف في هذا المقال أن هناك نفس المظاهر موجودة داخل فضاء السايبر/الإنترنت/مواقع التواصل، ولكن وفق قوانين جديدة تسمح بالاحتكاك المباشر، لتجد تداخلا عنيفا على مستوى الألفاظ بين الهامش والمتن، وفق معطيات وهمية تصنع ما يشبه (فوضى الحواس) فالدرباوي يلبس ثوب الشيخ ليهاجم المثقف، ويلبس ثوب المثقف ليهاجم الشيخ، يضرب هذا بكلمة ذاك وهكذا، والشيخ يتحول إلى درباوي في مهاجمة المثقف، والمثقف يتحول إلى شيخ في مهاجمة الدرباوي، والبرجوازي يتصنع الإنسانية الشيوعية، والمفكر يترافع بالشعبي ضد النخبوي بعد أن سقط في غواية الجمهور/المتابعين، والواعظ يتلبس مفاهيم الحداثة كي يصبح (كول) في سبيل متابعات أكثر، والممانع يقف في صف التطبيع دون أن يدري، ومن يُحَرِّم الاختلاط يختلط بطريقته (الإسلامية) على الخاص، والهاشتاق جراد منتشر يأكل الأخضر واليابس، إنها فعلا فوضى عبر اللغة وبالصوت والصورة أحياناً.
هل تستمر هذه الفوضى؟ بالطبع لا، وفي مسح الذاكرة السريع للمراحل التي مر بها التعاطي الاجتماعي مع وسائل التواصل، نجد مرحلتين، الأولى: بدايات الكتابة بالاسم المستعار على خجل، مع سقف الحرية الهش والمرتبك والخائف مع ضعف المراقبة عبر المنتديات، الثانية: مرحلة الاسم الحقيقي والحرية بلا سقف مع تواصل مباشر ويومي رغم قوة المراقبة والمعاقبة، كل هذا يعطي مؤشرا لتشكيل مزاج وفرز من نوع لا يمكن تحديد معالمه الآن، ولكن يمكن محاولة استقرائه عبر انتقاله من هذه الفوضى إلى صناعة توافقات للمشتركات المتفق عليها على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وعدم الاعتراف بهذه النتيجة المنظمة التي ستؤول إليها هذه الفوضى معناه تجاهل الاستراتيجية والاكتفاء بلعبة ردة الفعل السياسية، وأقصد بذلك القاعدة التي تقول: (الفعل استراتيجية، وردة الفعل مجرد سياسة)، وإغفال بعض المظاهر لتوافقات المطالب الشعبية في مواقع التواصل، سيحيل هذه التوافقات إلى مستوى (الاستراتيجية/الفعل) لتصبح الحكومات مجرد (ردة فعل/سياسة) لها.
لا يخفى على القارئ أن ظهور المطبعة في أوروبا كان مخيفاً لرجال الدين الذين قاوموا انتشار هذا الأمر فكيف للمعرفة التي في الكتب أن تكون بين أيدي الناس من غير رقيب، وللمطبعة التي جعلت المعرفة متداولة لتصنع أكبر أثر في أوروبا؟ فإن الإنترنت ووسائل التواصل خصوصاً التي ترفع حساسية العموم الشعبي إلى مستوى أرفع قليلاً من المستوى السابق لما قبل هذا الانفتاح العنكبوتي، تجعل هذا المستوى القليل جداً، له أثر وارتداد على الواقع أكثر من المتوقع، المسألة تحتاج إلى كثافة في الوقت، فالتراكم الكمي سيحدث تغيرا نوعيا لا محالة، المطبعة في أوروبا فعلت فعلها قديما هناك في العقول والواقع، والإنترنت سيكون له ارتداده الجيد (بألم) على دول العالم الثالث، والربيع العربي (لمن كانوا معه أو ضده) ما زال شاهداً على قوة النتائج التي بدأت من هناك حيث الفيسبوك والتويتر واليوتيوب، حتى تركيا عملت على حجب الخدمة أحياناً بحجج مختلفة، وهي أكثر ديموقراطية من غيرها، ثقافة الإنترنت كفلت (حق التعليق وإبداء الرأي، والتصويت) مع حرية الوصول للمعلومة، إنها الديموقراطية تزحف ببطء تسبقها السلحفاة، لكنها تزحف وتصل.
كانت كتب المفكرين العميقة تحذر من الإسلام السياسي منذ عشرات السنين، وها هو مقطع واحد تصنعه داعش عما تفعله بالرقاب والأيدي يؤدي مفعول كل هذه الكتب في تحقيق الصدمة الفكرية لذوي الألباب من الغافلين، ليعيدوا على أنفسهم سؤال الحضارة والحياة والمجتمع والدين، ها هو مقطع آخر يعري سلوك مجتمع بأكمله في سياحته الخارجية، ليعيد علينا سؤال (الخصوصية)، هل هي خصوصية (امتياز إنساني حضاري)، أم أنها خصوصية (ذوي الاحتياجات الخاصة)؟.
من (الدرباوي والمطوع) اللذين أنهكهما الهامش إلى (صاحب السعادة وفضيلة الشيخ) تكمن حكاية مجتمع ضامنه الحقيقي إيقاف التآكل الكبير في الطبقة الوسطى، فبازدهارها وقوتها تختفي كثير من المظاهر الحدية في السلوك ليمتزج الفضاء الاجتماعي بتنمية مستدامة للجميع.
ختاماً: لا يمكن أن أخفي سعادتي وفخري بمشروع الابتعاث الذي لمست أثره الحقيقي عندما هاتفني أحد أبناء البادية من واشنطن ليخبرني عن حياته المتواضعة قبل البعثة، إذ إن هذا الابتعاث قد وصل للجميع حتى لهذا الطالب الذي كان يطارد حلال أبيه قبل بضع سنوات في الفيافي والقفار، مثل هذه المشاريع ذات البعد الحقيقي الخالد في استثمار (التنمية في الإنسان) هو ما يجعلنا نمحو حكاية الأكاديمي الغائب المنقطع عن بلده، الذي عاد بعد 50 عاما وقال: رجعت من المهجر لألتقي أختي لأتفاجأ بها وهي مع زوجها وأبنائها يملكون منزلا وسيارة أمام شارع مسفلت، ولكن الذي صدمني إلى نخاع العظم أن كل هذه التغييرات حصلت فيما حولها وليس فيها، إنها كما هي قبل 60 عاما (أمية لا تقرأ ولا تكتب) ركضت لي بخبز التنور صنعته بيدها كإنجاز وحيد عاشت به نصف قرن، مسح عيونه كي لا تظهر دموعه، وقال: قبَّلت جبينها وأخذت الخبزة وتذكرت معنى التنمية والتطور إذ تشبه أحياناً (صبح العميان).