سأنقل شهادة أحد من عايشوا الدكتور أحمد القاضي، رحمه الله، حيث يقول عنه الدكتور إمام عدس: "كان مثلاً في دماثة الخلق وحسن المعاملة والصبر العجيب الذي يدعوك للدهشة، وقد حدث لي معه طرفة، فكنت وقتها حديث عهد بالدعوة، وكنت مغرماً بالدعوة الفردية كطريقة تربوية رائعة ليست فيها قيود وتؤتي ثمارها كل حين بإذن ربها، ولذلك حين التقيت الدكتور القاضي ولمست فيه هذه الأخلاق الرائعة العظيمة، خططت أن أقوم معه بالدعوة الفردية حتى لا تفوت الدعوة مثل شخصيته، وقد فهم رحمه الله ذلك وتجاوب معي ولم يخبرني أنه من أكبر المسؤولين عن العمل الإسلامي في أميركا كلها.

وكم ضحكت من نفسي حين علمت بعدها أني كنت أعيش تحت سقف واحد مع أكبر المسؤولين عن الحركة الإسلامية في أميركا، وقد تعلمت منه ومن والده الذي كان قد تعدى الثمانين عاماً وقتها الكثير، عليهما رحمة الله، فقد كنت أرى بعيني الجهد المتواصل الذي يبذله الدكتور القاضي الابن يومياً، حيث كان رحمه الله قليل النوم، إذ يبدأ يومه بصلاة الفجر مؤذناً لمن في البيت، وكان يرفع صوته بالأذان ماراً بالجناح الذي أقيم به ثم بغرفة بناته وغرفة زوجته حتى يستيقظ الجميع للصلاة، وبعد الصلاة والأذكار كنا نجلس جلسة تفسير وقرآن معه ومع أهله، وقد كان له أربع بنات: سلمى وماجدة ومنى وسميرة، وكنت أقوم بتحفيظهن القرآن، وتعليمهن النحو، وقد أدبهن فأحسن تأديبهن ورباهن فأحسن التربية، وكانت هذه الجلسة بعد الفجر بمثابة الزاد الروحي الذي يصحبنا يومنا كله.

وقد تعلمت منه دقة المواعيد والنظام، حيث كان يحتفظ بورقة في جيبه تحتوي على كل مواعيده وأنشطته التي أعدها ليومه ليلتزم بها ويستدعيها بين الفينة والفينة حتى لا يفوته شيء منها، وكان ينجز في اليوم الواحد ما ينجزه واحد من الشباب من شباب هذا العصر في أيام ولا أبالغ إن قلت في شهور.

ويصفه الشيخ شاكر السيد إمام مركز دار الهجرة الإسلامي بولاية فرجينيا قائلاً: "سيظل الدكتور القاضي في ذاكرتنا جميعاً ولن ينسى، ليس فقط لمساهماته وإنجازاته ولكن أيضاً لشخصيته المتميزة وتعامله الراقي، إذ إن القاضي عرف عنه القلب اللين الرقيق واللغة السهلة، وكان دائماً ما يضحي بمصالحه الشخصية لحساب مصالح العامة".

إذا كان لنا أن نستقرئ نفس الدكتور القاضي من أقواله وأفعاله ووصف من عاصروه له، فإننا بلا شك نكون قد تعرفنا على الإنسان، على الذات الحقيقية، على النفس الزكية السامية المطمئنة لهذا الرجل الرباني، رحمه الله. قلما يجتمع الناس على تزكية شخص، وعندما يجتمع أهل الخير والصلاح والإصلاح على تزكية رجل، فاعلم أنهم شهداء الله في الأرض، أما أنا فسأترك شهادتي في آخر بحثي في قصتي مع الدكتور القاضي التي أشبه ما تكون بالخيال.

الآن وقد تعرفنا على الإنسان نعود لنتحدث عن مكان ميلاده ومسقط رأسه وتعليمه، فقد ولد الدكتور أحمد القاضي في أغسطس 1940 في مصر بمدينة دسوق، حيث أنهى الدراسة الثانوية في الإسكندرية وتوجه إلى النمسا لدراسة الطب عام 1961، ومن ثم توجه إلى أميركا لإنهاء التخصص في جراحة الصدر والقلب والشرايين وأنهى البورد الأميركي في الجراحة العامة والبورد الأميركي في جراحة القلب والصدر، وعمل أستاذاً لجراحة القلب والصدر في جامعة ميزوري في كولومبيا، ثم مديراً لقسم الجراحة لبرنامج مستشفى بنساكولا التدريبي للجراحة في ولاية فلوريدا، وقام بتأسيس وقيادة إدارة معهد الطب الإسلامي للتعليم والبحوث في بنما سيتي بولاية فلوريدا منذ 1980 وحتى وفاته عام 2009، وصدر له أكثر من 86 بحثاً طبياً في مجال الجراحة وأخلاقيات الطب والعلاجات الطبيعية والعلاجات التكميلية والطب الإسلامي.

ومن أعظم ما قدمه الدكتور أحمد القاضي والذي دفعني للكتابة عنه هو مفهومه العميق الشمولي للصحة والذي سبق به عصره. والتعامل مع الإنسان بشموليته جسداً وعقلاً وروحاً، حيث إن الطب الغربي حتى بداية التسعينات كانت نظرته للعلاج قاصرة على الجسد، وقصور النظر هذا لمفهوم العلاج تعود جذوره لتاريخ العلم في أوروبا ومحاولة الكنيسة المسيحية السيطرة على عقل الإنسان ومحاربة العلوم ومعاقبة العلماء والباحثين، بل ومحاكمتهم وإعدامهم أمثال جاليليو، مما أدى إلى انفصال العلم عن الدين أو الروحانيات.

هذا الطلاق المصطنع أدى إلى النظر إلى علم الطب باعتباره لعلاج الجسد فقط، وتعامل الإنسان مع جسد الإنسان كما يتعامل مع الآلة والأشياء المادية بقوانين نيوتن، وهذه القوانين الميكانيكية يمكن تطبيقها فقط على الأشياء المادية وفي الماديات والآلات، ولكن الإنسان الذي فيه نفخة روح الرحمن هو شيء آخر، وهذا فهم خاطئ لطبيعة الإنسان المعقدة التي تتداخل فيها المكونات المختلفة من جسد وعقل وقلب ونفس وروح، وهي مكونات لا يمكن تجزئتها، فكل منها يؤثر على الآخر سلباً أو إيجاباً.

ولو لم يتأخر المسلمون في العلوم ما يقارب ألف عام أو يزيد لرأينا الطب يمارس اليوم بطريقة شمولية جسداً وعقلاً وروحاً، هذا المفهوم الشمولي للعلاج الذي أصبح اليوم توجهاً عاماً عالمياً، كان القاضي من أوائل من تنبهوا له في بداية الثمانينات والذي كان توجه علماء المسلمين الأوائل مثل ابن سينا في كتابه (القانون في الطب).

لقد كان التحدث عن شمولية علاج الإنسان جسداً وعقلاً ونفساً وروحاً، وتأثير النفس والعقل على فسيولوجية الجسد ضرباً من الرجعية، وقد عايشت تلك الأيام وأنا أدرس الطب بكلية الطب جامعة جورج واشنطن في الثمانينات ومطلع التسعينات في جامعة هارفارد، فكان التحدث مع المريض عن أي شيء غير الجسد يعتبر غير مهني، ويمكن أن يعرض طالب الطب إلى المساءلة أو أن يطرد من الجامعة أو المستشفى التي يعمل بها، واليوم ندرك ما أدركه الدكتور القاضي وحارب في سبيله طوال عمره.. الصحة الحقيقية تبدأ من الداخل والعلاج والشفاء الحقيقي ودور الطبيب أو الحكيم هو أن يساعد الإنسان على أن يخرج منه أحسن ما فيه، أن يحث جسده المصنع العجيب العظيم المعجزة أن يخرج الدواء والعلاج، أن تعمل النفس والروح والعقل والجسد معاً لتحقيق الشفاء.

إن قدرة إيمان الإنسان على تحقيق الشفاء التي طالما تحدث عنها الدكتور القاضي ولقيت هجوماً وصداً في المحافل الطبية، ها هي اليوم تكتب عنها مئات الكتب والأبحاث، فهذا بروس ليبتون في كتابه (بيولوجية الإيمان) يؤكد بالأبحاث والدراسات قدرة الإيمان بالشفاء على شفاء الإنسان، وهناك علم يسمى Epigenetics أي اليد العليا التي تتحكم وتؤثر في الجينات، والتي تعني تأثير البيئة التي نختارها في انتقاء كيف تعبر الجينات عن نفسها في صناعة البروتينات، أي أن البيئة تسهم في تفعيل جينات محددة، وبذلك أدركنا أننا لسنا أسرى جيناتنا كما كنا نعتقد سابقاً، بل إن الله مكن الإنسان باختياره للبيئة التي يعيشها أن ينتقي كيف تعبر هذه الجينات عن نفسها في صناعة البروتينات والتي هي الإنسان.

البيئة التي يختارها الإنسان بما يسمح لعينيه أن ترى وأذنيه أن تسمع وبما يأكل أو يشرب وبما يشعر وبما يفكر، وبذلك يغير برمجة جيناته ويغير بذلك كل حياته.