في عهد الرئيس الأميركي "رونالد ريجان" أصدرت اللجنة الوطنية الأميركية للتَمَيٌز التربوي خلال عام 1983 تقريرها الشهير تحت عنوان "الأُمة في خطر"، الذي أثبت أن تدهور مستوى التعليم في أميركا كان له أبلغ الأثر في تراجع الاقتصاد الأميركي وضعف تلبية الاحتياجات الوطنية من القوة العاملة التنافسية.
هذه اللجنة كانت مكونة من 18 عضوا من القطاعين الخاص والحكومي، وبرئاسة مدير جامعة "يوتا" الدكتور "ديفيد جاردنر"، بعد أن رفض الرئيس "ريجان" تعيين وزير التربية والتعليم الأميركي رئيسا لها. ولدى تقديم تقرير اللجنة، الذي اشتمل على تعديل مسار الإستراتيجية التعليمية الأميركية وتقويم نوعية التعليم العام والخاص في كافة المراحل، افتتح الدكتور "جاردنر" تقريره الشهير بعبارات قاسية، جاء فيها: "إن الأسس التعليمية الحالية في المجتمع الأميركي تآكلت بسبب الموجة المتصاعدة من الوسطية التي تُهدد مستقبلنا بصورة كبيرة كأمة وشعب وحكومة، وإذا حاولت قوة أجنبية معادية أن تفرض علينا أداءً تعليمياً متوسطاً مثلما هو موجود اليوم، فيجب علينا أن ننظر إليها على أنها حرب ضد أميركا".
مستوى التعليم في عالمنا العربي يمر اليوم بمرحلة خطيرة نتيجة طغيان الطابع النظري التقليدي على الأسلوب العملي التقني، وتفاقم وسائل التحفيظ والحشو والتلقين على حساب عناصر البحث والفكر والابتكار، ما أدى إلى تراجع مراتب جامعاتنا وهجرة معظم خبرائنا وجل علمائنا. ولا غرابة في ذلك، فالوطن العربي، الذي يزيد عدد سكانه على عدد سكان اليابان، تنخفض عدد جامعاته إلى 500 جامعة، بينما ترتفع إلى 726 جامعة في اليابان، و5700 في أميركا، و8400 في الهند. ولا عجب في ذلك، فعلماؤنا في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء تدنت نسبتهم إلى 3 علماء من بين كل 10,000 عربي، بينما تفوق 40 ضعفاً في أوروبا و50 في اليابان و54 ضعفاً في أميركا، لتنخفض نسبة عدد علمائنا بشكل عام إلى 230 عالما فقط من بين مليون عربي، بينما ترتفع هذه النسبة إلى 5000 عالم لكل مليون ياباني و4360 عالمٍ لكل مليون هندي و3200 لكل مليون صيني.
منظومة التعليم السعودية التي تحتوي اليوم على 24 جامعة حكومية و8 جامعات خاصة و39 كلية أهلية، تتوزع على 76 مدينة ومحافظة ويلتحق بها نحو مليون طالب وطالبة، يقوم على تدريسهم أكثر من 58 ألف أستاذ ومحاضر. هذا إضافة إلى وجود 33 ألف مدرسة للبنين والبنات يدرس فيها أكثر من 5 ملايين طالب وطالبة ويقوم على تعليمهم أكثر من 482 ألف معلم ومعلمة.
هذه المنظومة في أمس الحاجة إلى إصلاح فوري للنهوض بالتعليم وتلبية كافة احتياجات المعلمين والطلاب، من خلال تنفيذ 5 معايير رئيسية تبدأ بتعديل المحتوى الدراسي، وتحديد أوقات الدراسة، وزيادة رواتب المعلمين، واختيار الإدارة الكفؤة، وتنتهي بمواصلة تقييم نتائج هذه المعايير. وللخروج بنتائج إيجابية، تحتاج هذه المعايير إلى سياسة تعليمية واضحة تنطلق منها كافة ممارسات العمل في النظام التعليمي بجميع مراحله، لتحقيق المساواة في فرص التعليم واستمراره، وتقوم على تغذية القطاع الخاص بالقوى العاملة الفنية، وتحديث المقررات الدراسية في إطار الحركة المتسارعة للعلوم والتقنية.
ولكي نبدأ حقا في إصلاح التعليم، لا بد من اتخاذ الخطوات الاستراتيجية التالية:
أولاً: ضرورة رفع مستويات التعليم في كافة المراحل الدراسية بالمملكة ودعمها بأصول البحث والابتكار كي تتخطى حاجز التفاوت الشديد بين مستوى التعليم لدينا ومستوى التعليم في الدول المتقدمة. ولقد أثبتت كافة الدراسات أن التعليم وليس التلقين هو الذي يثري تبادل المعرفة، وأن البحث وليس الحفظ هو الذي يسهم في طرح الأفكار الجديدة، وأن الابتكار وليس التقليد هو الذي يصنع البنية الوطنية. لذا يجب أن يصب التعليم العام في تنمية القوى الدافعة للمجتمع المعرفي ورفع مستوى قدراتنا التنافسية الإقليمية من خلال بناء قدرات الطالب وتثقيف المدرس وتوطين مبادئ الفكر والمعرفة.
ثانياً: إلزام كافة مدارس التعليم العام بتطبيق مناهج العلوم الطبيعية والتطبيقية الخالية من الحشو والتلقين، وإضافة مقررات متخصصة في تقنية المعلومات والهندرة، لتسهم هذه الخطوة في رفع مستوى الطلاب الأكاديمي، وتشجيعهم على العمل بروح الفريق الواحد، وتهيئتهم للمرحلة الجامعية. ولتحقيق هذه الخطوة علينا مراجعة مكونات عوامل التعليم التقليدية، التي كانت تعتمد في الماضي على المدرس والطالب والكتاب، واستبدالها بأصول التعليم الحديث المستخدم في المدارس الذكية، التي تستند على البحث والفكر والابتكار. والدليل على ذلك أن منظمة الأمم المتحدة أكدت في تقريرها السنوي الأخير أن المعرفة تستأثر اليوم بنسبة 7 % من الناتج الإجمالي العالمي وتنمو بمعدل 10 % سنويا، وأن 50 % من نمو الإنتاجية في دول الاتحاد الأوروبي تأتي نتيجة مباشرة لإبداع مراحل التعليم الأساسية في تدريس مادة تقنية المعلومات.
ثالثا: تخصيص الجامعات السعودية وفصلها تماما عن وزارة التعليم ليصب هدفها الأول في إثراء التنافسية بينها الرامية لاستقطاب أفضل الطلبة وأعضاء هيئة التدريس، ما يشجع القطاع الخاص ويدفعه لتمويل المقاعد الدراسية والأبحاث الجامعية والطاقات الفنية لجعل هذه الجامعات قادرة على توليد القدرات اللازمة في السوق الوطني. ويسهم تخصيص الجامعات في قدرتها المستقبلية على تأسيس الوقف الخاص بها، وإثراء البحث العلمي وتوطين التقنية بالتعاون مع الشركات المحلية والعالمية، إضافة إلى فتح أبوابها للاستشارات الفنية والاقتصادية والطبية في كافة التخصصات.
علينا البدء في إصلاح التعليم فورا للخروج من دائرة الخطر.