من الأدبيات المحلية في بلدنا أنه يجب على العامي أو غير المتخصص أن يتبع علماء بلده أو المكان الذي يعيش فيه ولا يلتفت للعلماء في خارج بلده. وهذه المقولة وإن كانت خطأ بهذا الشكل أو صحيحة ولكن ليس وفق الطريقة التي تساق بها؛ إلا أننا سنفترض صحتها بالكلية لنقيس الزمان عليها. فمعلوم أن الزمان والمكان متلازمان دائما في النظر إليهما من حيث التغير وإمكانيته سواء في المواضيع الدينية أو الدنيوية، ولذا تشتهر عندنا مقولة ابن القيم "تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان". وبما أنهما متلازمان وأنه يجب على المرء ألا يأخذ الفتوى من خارج علماء مكانه (بلده) فكذلك يجب ألا يأخذها من خارج علماء زمانه أيضا، فما الفرق بين الزمان والمكان؟ بل إن منعه من الأخذ من علماء خارج زمانه أولى من منعه من الأخذ من علماء خارج مكانه، لأن التغير في الزمان أعظم من التغير في المكان، فالشخص الذي يعيش في أقصى الأرض أقرب إليّ في الفكر والصفات والطباع واتحاد الأفعال والإيماءات من جدي العاشر رغم أني أنحدر منه، ولو وجد كلا الشخصين أمامي لفهمت ما يفعله الشخص البعيد عني مكانا ولن أفهم ما يفعله جدي، فكيف بما هو أبعد زمنا، بل إن السلف -وهذا لمن يراهم مرجعية كبرى- قد غيروا باعتبار الزمان ولكنهم لم يغيروا باعتبار المكان، فلا أعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضع أحكاما للعراق وأحكاما لليمن وأحكاما للمدينة، لكنهم غيروا في الزمان عن الزمن الأول كتضمين الصناع وتحويش الإبل وغيرها، وإذا كان سيقال إن اتفاق الأغلبية في المكان -والذي قد يصل لدرجة الإجماع- لا عبرة به إذا كان خارج بلد الشخص وعلى الشخص الاقتصار على فتوى البلد، فكذلك يقال في اتفاق الأغلبية في الزمان والذي قد يصل لدرجة الإجماع وعلى الشخص الاقتصار على الفتوى الجديدة في زمنه.

وما سبق على سبيل التقابل، حتى لا يتناقض من يطالب بالاقتصار على فتوى البلد لأن أغلب من يطالب بذلك يرى أن تغير الفتوى بفعل الزمن انحراف وضلال وهذا تناقض عجيب، لكن من الناحية العلمية يمكننا القول إنه يتعين على غير المتخصص أو من ليست لديه قدرة على النظر الشرعي أن يتبع عالم زمانه أو عالم مكانه بعد أن يقتنع بصحة قوله من خلال الظرف الذي يعيشه، فهو ليس آلة يتم توجيهها وإنما له قدرة على فحص الأقوال خاصة بعد زيادة الوعي، وإن عجز فاتباع نصف عالم في زمانه أولى من اتباع علماء الأزمنة السابقة مجتمعين، لأنه وبقدراته المحدودة -وأقصد نصف العالم- يستطيع الربط بين واقعه وبين النص، وأولئك لا يستطيعون ذلك مع واقعنا مهما بلغت عظمتهم.

وبالتالي نعلم سخف ذلك القول الذي يطلقه البعض بحق مجدد حينما يقول له: هل نترك قول جهابذة السلف كأبي حنيفة ومالك والشافعي ونأخذ بقولك أنت؟ وما علم أن هذا هو ما يجب عليه وليس فقط ما يجوز له حتى وإن كان هذا المعاصر نصف عالم، وليس هذا في النوازل فقط وإنما في كل قول حسموه في السابق، خاصة إذا علمنا أن أيا من القدماء لو طال به العمر إلى زمننا فإنه سيغير قوله 20 مرة على مدى مئات الأعوام السابقة، وهذا المسكين ما زال يقدس الأول الذي تغير 20 مرة، إذ أنه ما من عالم إلا وله روايتان أو مذهبان يحكيان التغير في عمره العلمي المقدر بـ50 عاما فكيف لو كان ألف عام! فلا شك أنه سيغيره 20 مرة وليس هذا في الفقه بل حتى أصول الفقه وحتى في الإجماعات.