(يوهانا) في بعض المصادر، أو (جوان) في مصادر أخرى، بطلة أسطورة عجيبة من الأساطير المنسوبة المتعلقة بالفاتيكان. قرأت عنها لدى البعض المؤرخين الذين يزعمون أن تعقبهم لمصادر القصة أوصلهم إلى القول بصحة وقوعها التاريخي وإن كان الإنكار الجازم ما زال موقف الفاتيكان عند الحديث عن هذه القصة التي تحكي كيف أن أحد الباباوات في القرن التاسع الميلادي لم يكن سوى امرأة انكشف أمرها عندما دهمتها آلام الطلق فأنجبت طفلتها أثناء مسيرها في موكب عيد القيامة. تقول القصة إن الكرادلة وبقيّة الناس نفذوا في البابا المرأة وطفلتها إعداماً سريعاً ودفنوهما في مكانهما، انتقاماً لشرف الكرسي البابوي الذي تعرض لهذه الإهانة الفاضحة.
يروى أن والد يوهانا كان مبشراً إنجليزياً لا يرى للمرأة حقاً في التعلّم ولا في لمس الكتاب المقدس، ما اصطدم بجسارة هذه الفتاة ورغبتها في المعرفة. لقد كانت رؤية الوالد معززة بثقافة ونظم القرون الوسطى. لذلك لم يكن للفتاة بد من قرارها بالهرب والتنكر على هيئة شاب لتنجح بعد ذلك في التسلل إلى أحد الأديرة وتلقي التعليم الديني، بل والنبوغ اللافت الذي ظهر عليها في مدة وجيزة. تركت يوهانا الدير بعد ذلك لتكمل رحلة تنكرها في ثوب رجل الدين الذي يعلم الناس ويساعدهم، فاتجهت إلى اليونان ومن ثم إلى روما التي كونت فيها علاقات مهمة بسبب طغيان شخصيتها العلمية وتأثيرها، ما أهلها إلى الترشح لمنصب البابا عند فراغه والتمتع به لأكثر من عامين قبل أن ينهي مخاضها المفاجئ حياتها، فضلا عن إنهائه رحلتها الطويلة من التنكر.
وظّف (مارتن لوثر) قصة يوهانا -أو البابا جون- في دعايته ضد الكنيسة، وتبعه في ذلك كثير من الدعاة البروتستانت، كما استعملها للغرض ذاته بعض أصحاب الأفكار (المهرطقة) بحسب توصيف الفاتيكان.
كانت قصة يوهانا مادة لفيلمين سينمائيين على الأقل. حمل أحد الأفلام اسم (البابا جون) وقد حاول هذا الفيلم إعطاء القصة بعداً نسوياً من خلال تصويره سلوك يوهانا التنكري على أنه نوع من السخرية بالمفاهيم الذكورية وسلطتها. هناك جدل علمي حول الإمكانية الفعلية لمثل هذا التنكر، فهناك تساؤلات عن إمكانية إخفاء الصوت وطريقة الحركة وبقية التفاصيل الأنثوية، كما أن هناك أجوبة تتفاوت من حيث الوجاهة على ذلك.
بإمكاننا قراءة القصة بمنظور (يوهانس هوس) الذي واجه بها مجمع كونستنز أثناء محاكمته مركزاً على رمزية القدرة التضليلية للمظهر الديني، وخطر الانصياع له وتجاهل الطبيعة البشرية لكل من يتزيّا بذلك المظهر. كما بإمكاننا التساؤل بعمق عن حقيقة ما كانت تدين به يوهانا؟ وهل كانت دوافعها محصورة بالتطلع للوجاهة والثراء والامتيازات التي يحققها المنصب الديني، أم أن قراءة كهذه ربما تعدّ ساذجة عند النظر إلى طول سنوات التنكر وخطورته على حياتها؟ هل كانت يوهانا على درجة من التناقض أو ربما العمق الذي تستطيع بواسطته التوفيق بين ما تؤمن به من أعماقها وبين ما تتلقاه نظرياً على يد معلميها؟ لا سيما عند تذكر تورطها بما قد يعدّ خطيئة في تقاليدها الدينية، وهو ما تشير بعض الروايات إلى أنه لم يكن المغامرة الأولى لها من النوع نفسه!
ولكن أبرز ما تأملته في هذه القصة عند اطلاعي على الجدل حول صدقيتها التاريخية، هو تلك الجدلية التي تتنازع الكثير من تصرفات المتدينين ومناصري القضايا المهمة، وأعني التقابل الأخلاقي بين الرؤية التي تقدس الحقيقة لذاتها، وبين تلك التي تضع الحقيقة في إطار المصلحة وغالبا ما تكون مصلحة حماية المذاهب والحفاظ على سمعة المدارس الفكرية ونحوها. بحسب المتبنين لصحة القصة تاريخياً فإن الفاتيكان قد بذل جهداً جباراً في إخفاء الأدلة التاريخية منذ إزالة التمثال الذي يجسد تلك القصة كما يزعم مارتن لوثر إلى إخفاء كل وثائق الترسيم البابوي للبابا جون الثامن ومنع الحديث عنه، رغم استمرار الفاتيكان في ممارسة طقس التأكد من ذكورة البابا قبل كل ترسيم وهو الطقس الذي يقصد به منع تكرر خدعة يوهانا كما يزعم بعض المؤرخين.
هناك من يرى بأن ليس كل ما يعلم يقال، وأن الحفاظ على المكانة الاعتبارية للأشياء تقتضي التنازل أحياناً عن الإقرار بالحقائق، ولكن هناك في المقابل من يرى في هذا عين الخديعة وخيانة المعرفة. هناك مذهب وسط يقول "لا أقول كل الحقيقة ولكن كل ما أقوله حقيقة"، وهو ما لا ينجو أيضا من انتقاد التيار المتحيز للحقائق بشدة، أمثال نعوم تشومسكي وباسكال بونيفاس، فهؤلاء ينبهون دائماً بأن صرخة المخاض الفاضحة للتنكر قد تحدث في أي وقت، ونتائج ذلك لا تكون سارة في الغالب.
أخيراً فهناك ما أنا متيقن تماماً في ما لو صحت تاريخية هذه القصة، وهو أن مواهب يوهانا التنكرية تفوق بكثير مواهب أغلب الممثلات العربيات اللواتي رأيناهن يحاولن إقناعنا بجدية تنكرهن في هيئة الرجل. فعلى سبيل المثال ماذا لو أن يوهانا كانت بنفس أداء (سلوى سعيد) في مسلسل وضحى وابن عجلان؟ أو (مرح جبر) في نسخته الأخيرة؟