هناك رموز رحلت دون أن نحفل بتوثيق وتدوين مسيرتها وجهادها حين غابت في معاطف المنسي والمندثر، واقتعدت الهامش الاجتماعي في استبعاد ليس له مبرر أو حضور خجول وغير منصف، لذا تسللت هذه الرموز وتبعثرت في مسارب الزمن ودفاتر المجهول، دون أن نكشف أو نعرف أدق ما اعتمل في دواخلها أو توصيف مضخة وعيها، وحجم مشاركتها في صياغة واستنهاض كوامن مجتمعها ومستجدات عصرها.
وفي منطقة عسير برزت شخصية متفردة شكلت ظاهرة في شقها الإبداعي، وتعالياتها المعرفية، وخطابها التنويري، وتعدد اهتماماتها وتشوفاتها الفكرية، إنه الشيخ (سعيد بن محمد الغماز) المولود في مدينة أبها قبل (120) عاما، والمنحدر من إحدى القرى الجبلية بمحافظة سراة عبيدة قرية (آل عابس) وقد حظيت هذه الشخصية باهتمام ومتابعة الصديق الباحث (أنور محمد آل خليل)، حين التفت إليها بحثا واستقصاء وتقديما يليق بها فهو يقول: "دون مبالغة يمكنني القول بأن الغماز حالة إبداعية لم يرو لنا التاريخ المعاصر حالة تشبه حالته". والمتتبع والراصد لمسيرة الشيخ الغماز، يلمح ولعه بالرسوم البيانية والتشكيلية والهاجس الصحفي، حيث تضم آثاره التي يمتلكها الأستاذ إبراهيم الغماز وأسرته: خارطة بالألوان سماها (مقاطعة أبها)، لوحة فلكية رسم عليها دورة النجوم والأبراج مع شروحاتها، خريطة سماها (جبل عسير)، لوحة رصد عليها أكثر من (200) مثل وسماها (أمثال عرب الجنوب)، لوحة بيانية لحكام عسير من عام 1275 هجرية إلى عام 1386 هجرية، لوحة لحياته الزوجية متضمنة زوجاته (السبع والعشرين) بأسمائهن ومقدار صداقهن ومدة ارتباطه بكل واحدة منهن، لوحة بيانية تروي حياته العلمية والعملية منذ ولادته حتى إحالته للتقاعد، رسم لبلاد ربيعة، وسراة عبيدة، ووادي يبه، وقصور (آل أبو سراح) بقرية العزيزة. ورغم اشتغاله بالرسوم التشكيلية والبيانية فقد حظيت الصحافة بجزء كبير من اهتمامه كما يقول (آل خليل)، حيث قام بنشر عدد من مقالاته في مجلة (الرائد) وأصدر صحيفة (العسير) مكتوبة بخط يده، قال في ترويستها "جريدة أسبوعية تبحث في الأخلاق والأخبار تصدر بأبها عاصمة عسير بشعب البديع"، وكان صدور أول أعدادها يوم الإثنين الموافق 28 شوال عام 1342 من الهجرة، وتتكون من ثلاث صفحات، وقد استهل مقالاته بموضوع عن التجارة في عسير (انحطاط التجارة في البلاد العسيرية)، ومقال آخر بعنوان (افعلوا الخير تؤجرون)، تحدث فيه عن انهيارات وتهدم بعض المباني نتيجة الأمطار الغزيرة التي هطلت على أبها، وفي الصفحة الثالثة إعلانات تجارية وأخبار محلية، ورسم يدوي لمدينة أبها، ولقطات فكاهية ساخرة مع ملامسة لهموم المجتمع ومناقشة قضاياه.
رحم الله الغماز وأسكنه فسيح جناته، فقد سبق عصره من خلال تجلياته وتأملاته ومواريثه الثقافية والحضارية.