تحدثنا عن العلمانية وعرفنا بوجود إشكالية أدت إلى تقليص البعد والعمق الدلالي لكلمة (علمانية)، ولاحظنا وجود تأرجح بين تعريفين مختلفين تماماً من حيث التصور والنشاط والمرجعية والمدلول، فهناك تعريف جزئي بوصف العلمانية بأنها إجراءات جزئية لا علاقة لها بالأمور النهائية، فهي تقبل المطلق الديني أو الأخلاقي أو الإنساني، مقابل تعريف آخر شامل بوصفه رؤية شاملة للكون لا تقبل مطلقات.

ورأينا أن من إشكاليات تعريف العلمانية، إشكالية تصور العلمانية بأنها فكرة ثابتة تبدأ جزئية ويمكن لها أن تثبت دون أن تتطور بمتتالية متسارعة لتصل إلى مرحلة الشمولية، وهي الإشكالية الناتجة عن تجاهل قضية المرجعية أو النموذج الكامن وراء المصطلح والإطار المعرفي الكلي والنهائي الذي تتم في إطاره عملية الفصل، وكذلك ناتجة عن تصور البعض أنها ليست ظاهرة تاريخية، وإنما هي ظاهرة محددة تتم من خلال آليات ومجموعة أفكار وممارسات واضحة.

أما عن نشأة العلمانية، فقد نشأت في أوروبا في القرن الثامن عشر كأبرز معالم فلسفة التنوير الوضعي الغربي في حركة النهضة الحديثة والتي جاءت كرد فعل لمجابهة تسلط الكنيسة الكاثوليكية وتجاوزها لكل الحدود التي نصت عليها النصرانية من التركيز على الروح وتزكيتها وخلاصها. وبعد أن كانت أوروبا تحكم بسيادة نظرية السيفين the Theory of the Two Swords أي السيف الروحي المتمثل في السلطة الدينية (الكنسية) والسيف الزمني المتمثل في السلطة المدنية (الدولة)، استطاعت الكنيسة أن تحوز وتسيطر على السلطتين معاً بسيادة نظرية السيف الواحد -the theory of the one sword سلطة جامعة بين الديني والمدني، سواء تولاها البابوات أو الملوك الذين يباركونهم ويختارونهم، ومنها انطلقت نظرية الحق الإلهي للملوك (the Divine right of kings). فرفضت وجرمت وأنكرت كل ما هو غير موجود في الأناجيل، وبذلك دخلت أوروبا في عصورها المظلمة. وهذا أمر حتمي ومتوقع، حيث إن الدين المسيحي لم يكن في يوم من الأيام دين حياة، ولم يكن يحتوي على تشريعات سماوية في مجالات الحياة، كما كان خالياً من الفلسفات والأسس المنظمة والمشرعة للدولة، فهو غير مهيأ لأن يصبح منهاج حياة، وإنما كانت المسيحية مرحلة خاصة في التشريع السماوي، تعنى بالروح وتقوية علاقة الإنسان بالسماء، وهذا مختلف تماماً عن الإسلام الذي هو دين تشريع ودين حياة.

فكيف إذا اجتمع غياب المنهج السماوي من التشريع المنظم للحياة في المسيحية مع فساد رجال الدين المسيحي؟ عقود من الاستبداد والتخلف والظلام قبعت تحتها أوروبا لقرون عديدة.

وكان رد الفعل العلماني نزعاً كاملاً لكل قداسة عن كل شؤون الحياة والتحرر من استبداد الدين ورجال الدين وعزل السماء عن الأرض وحكم النظم والفلسفات والتشريعات والقوانين بالعقل والتجربة دون تدخل من الدين، وبذلك ساعدت الملابسات التي نشأت فيها العلمانية على هزيمة الدين في الغرب في مواجهة العلمانية، فالتخلف الذي كانت فيه أوروبا لهو خير شاهد.

ولكن كيف نفسر بداية ظهور العلمانية كعلمانية جزئية مقتصرة على السياسة والاقتصاد وبعض مجالات الحياة الأخرى وترك مساحة حرية يتحرك فيها الفرد الغربي في مجال الدين والإنسان والأخلاق؟ نعم.. هكذا يبدو أن العلمانية قد بدأت علمانية جزئية، ولكن إذا فهمنا النموذج الكامن وراء المصطلح وما أطلق عليه الدكتور عبدالوهاب المسيري بـ"العلمنة البنيوية الكامنة" أدركنا أن العلمانية من أول يوم من أيامها تحمل في جينها الوراثي ونموذجها الكامل، قابلية بل وحتمية التطور، لتصبح علمانية شاملة على قدر توفر وسائل وأدوات وعمليات العلمنة.

والدارس للمراحل الأولى من العلمانية وطريقة انتقالها وتطورها إلى العلمانية الشاملة يدرك هذه الحقيقة، فلم تكن وسائل الإعلام والإعلان والتربية والتعليم وقطاع التسلية واللذة وصناعة الأزياء والتسوق والاستهلاك قد بلغت بعد قدرة كافية على الإغواء، فكان كثير من مجالات الحياة بمنأى عن عمليات العلمانية.

وهذا ما أدى إلى سذاجة التصور أن العلمانية تتم من خلال آليات واضحة يمكن تحديد مسار عملها، فتقتصر على السياسة والاقتصاد دون أن تؤثر على المنظومة الأخلاقية والإنسان والدين في باقي مجالات الحياة.

لذلك نرى في مطلع القرن الماضي عندما بدأت العلمانية كعلمانية جزئية كانت تعاليم الدين النصراني والمطلقات الإنسانية مستمرة في وجدان الإنسان الغربي. وكان الفرد في الغرب إلى حد كبير ما زال حراً في حياته الخاصة، فأدوات العلمنة التي ذكرناها سابقاً من قطاع اللذة والاستهلاك والإعلام والتعليم لم تتدخل فيها، وبذلك لم تتغلغل العلمانية في هذا المجال، وهكذا أعاقت التطور الطبيعي للمتتالية العلمانية عن التحقق لتبقى علمانية جزئية في مراحلها الأولى.

إذًا.. كل علمانية جزئية قابلة بل مصيرها ينتهي إلى علمانية شاملة إذا توفرت لها أدوات العلمنة، حيث إن أي نموذج فلسفي يجب أن يكون له مركز يشكل مطلقة، وفي حالة العلمانية فإنها تستند إلى ركيزة أساسية ومرجعية نهائية كامنة (نموذج كامن) وراء مصطلح ومفهوم العلمانية تستند على مبدأ واحد ألا وهو المادة والطبيعة، ومن هنا يأتي الحديث عن الإنسان المادي الطبيعي الذي تحكمه قوانين الطبيعة المادية، ومنها وحدها يستمد القيم والمعرفة بكل صورها الأخلاقية والجمالية.

حتى أصبح الإنسان في منظومة العلمنة ثلاثي الأبعاد:

1 - الإنتاج (في مصنع أو ما يعادله من إنتاج وصناعة وابتكار واختراع).

2 - الاستهلاك (في السوق).

3 - اللذة أو السعادة أو الملهى (أو ما يعادلها من كل الأمور التي تجلب السعادة والنشوة واللذة).

وبمعنى آخر فإن المنظومة الفلسفية في العلمانية استبدلت الإنسان (بشموليته الجسدية والعقلية والروحية) بالعقل، فأصبح المثلث هو الإله والطبيعة والعقل، بعد أن كان سابقاً الإله والطبيعة والإنسان. العقل الذي بنى عليه الغرب فكر الاستنارة، وهو الأساس الفلسفي الذي انطلقت منه العلمانية الشاملة.

فعند فولتير نجد أن التنوير يعني تمجيد العقل بدلاً عن قداسة الدين فيقول (النفس ليست إلا حياة الجسم تفنى بفنائه)، ويقول (ليس هناك وحي مقدس سوى الطبيعة).

ففي التنوير عند الفلاسفة الغربيين يحل آلهة التنوير محل الله والدين، وهذه الآلهة هي العقل والعلم والفلسفة، وهذا ما عبر عنه أحد دعاة التنوير في مصر، وهو مراد وهبة بقوله (التنوير يعني أنه لا سلطان على العقل إلا العقل)، أي أنه لا وجود لوحي أو غيب ولا شريعة سماوية ولا إله ولا دين، بل يقول (إنها الخروج من الأسطورة -أي الدين- إلى العقل).