عبير خالد
من الصراعات الثقافية التي تشكلت بين المثقفين الغرب في القرن العشرين صراع القومية الوطنية ودوافعها وقيمتها. درس هؤلاء المفكرين الغربيين القومية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية من عدة نواح ثقافية وأنثربولوجية وسياسية. كان على رأس قائمة المفكرين الباحث الإنجليزي بيندكت أندرسون Benedict Anderson الذي عرّف القومية بأنها: "مجتمع تخيلي محدود، تخيلي لأن أصحابه لا يعرفون بعضهم جميعا ومحدود لأنه ليس هناك قومية واحدة تجمع كل سكان البشر". بيد أن أندرسن تطرّف قليلاً في شرحه لأصول القوميات الوطنية إذ قال إن الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع سبب صناعة القومية الرئيسي. ولولا الإعلام لن يخرج أي شخص في حرب وطنية ولن يتمسك أي شخص بذكرى مكانية، إلا أنه من غير المنطقي قول ذلك لأن هذه الممارسات الثقافية والتجنيد للدفاع عن المكان موجودة حتى قبل ظهور الإعلام كصناعة. فإذا كانت هناك دوافع غير الإعلام تجعل الشعوب تحتفظ بثقافتها وتحارب من أجل انتمائها الوطني فما هي الدوافع؟
هنا ظهر رهط آخر من المفكرين أحدهم كان الباحث وعالم الاجتماع أنتوني سميث Anthony smith الذي بدوره نظر للقومية الوطنية من زاوية تختلف عن صديقه. قال سميث إن القومية الوطنية عبارة تسلسل تاريخي ثقافي، أو باصطلاح آخر هي "تراكم حضاري تمتلكه الأمم وليس للحداثة الإعلامية أي علاقة به إلا ربما من باب تعزيز هذا الموروث". فالإنسان مجبول بفطرته منذ آلاف السنين على المحاربة من أجل مكان ينتمي له أو لغة يتكلم بها أو عادة يتسم بها، وفي رأي سميث -ورأيي أيضاً- ليس الإعلام هو الذي دفعه لفعل كل ذلك، بل إنسانيته وانتمائه الطبيعي. وكذلك (عروبته) إذا كان الكلام عن أي قضية شرق أوسطية.
هذا الاستقراء الحكيم والمتزن للعلاقة بين المادة الإعلامية والمشاهد من حيث وطنيته وانتمائه يستحق التوقف. إنه من حق كل مواطن أن يقول إن دفاعه عن وطنه لم يكن بسبب أغنية وطنية سمعها قبل سنتين أو قصيدة وطنية لاقت رواجاً في الإنترنت مؤخراً، أو مقال في جريدة شهيرة، ولكنه يدافع عن وطنه لأنه يؤمن به ويشعر أن هذا هو ما يجب أن يفعله دائماً.
تسطيح عقول القرّاء أو المشاهدين أو المستمعين بهذه الرؤية (أنهم يفعلون كل ما يفعلون بسبب الإعلام فقط) تستفز كثيرا من الباحثين في الإعلام ليس لأن هذا التسطيح غير واقعي فحسب ولكن لأنه يجعل الناس يظهرون كما لو أنهم مجرد أدوات بيد الإعلام وليس لمشاعرهم أو أفكارهم أي مصداقية أو استقلالية.