تحدثنا في مقال سابق عن بداية ظهور العلمانية كعلمانية جزئية مقتصرة على السياسة والاقتصاد وبعض مجالات الحياة الأخرى وترك مساحة حرية يتحرك فيها الفرد الغربي في مجال الدين والإنسان والأخلاق، ثم تعرضنا لطريقة انتقالها وتطورها إلى العلمانية الشاملة، وعرفنا أن كل علمانية جزئية قابلة، بل مصيرها ينتهي إلى علمانية شاملة إذا توفرت لها أدوات العلمنة. فالمنظومة الفلسفية في العلمانية استبدلت الإنسان (بشموليته الجسدية والعقلية والروحية) بالعقل، فأصبح المثلث هو الإله والطبيعة والعقل، بعد أن كان سابقاً الإله والطبيعة والإنسان.. العقل الذي بنى عليه الغرب فكر الاستنارة، وهو الأساس الفلسفي الذي انطلقت منه العلمانية الشاملة.

فعند فولتير نجد أن التنوير يعني تمجيد العقل بدلاً عن قداسة الدين فيقول (النفس ليست إلا حياة الجسم تفنى بفنائه)، ويقول (ليس هناك وحي مقدس سوى الطبيعة).

وقد ابتدع العقل الغربي صورة الاستنارة المجازية في القرن الثامن عشر عندما كانت أوروبا لا تزال في عصور الظلام، باعتقاد أن العقل والعلم سينيران المجهول المظلم، وسيستمر العقل يكشف المجهول حتى تختفي جميع الأسرار ويتحكم العقل وقوانين المادة بكل صغيرة وكبيرة وتصلح البيئة ويعم الخير ويزول الظلام والشر.

ولكن بعد قرون عديدة من الاستنارة، استمر العالم يتخبط، بل ورقعة الظلام في كثير من مجالات الحياة زادت، ولذلك بدأ الغرب يراجع كثيراً من أفكاره وأطروحاته، وبالرغم من ذلك استمر في تصدير فلسفته العلمانية بكفاءة عالية حول العالم.

وإننا هنا لا ننكر التعريف العام لمفهوم الاستنارة من حرية العقل وحق الاجتهاد وحق الاختلاف وتحكيم العقل، فمشكلتنا ليست في استخدام العقل أو عدم استخدامه، وإنما في نوع العقل الذي يستخدم، أهو عقل لا يؤمن إلا بالمادة والطبيعة (مادي)، أم عقل قادر على تجاوز المادة (ما وراء المادة) والتعامل مع كلية الإنسان جسداً وعقلاً وروحاً. فالعقل في الإسلام يرتبط بفلسفة التشريع وروحها بربطها للمنفعة بالأخلاق، وللمصلحة بالمقاصد الشرعية، وللسعادة في الدنيا بالنجاة يوم الدين.

وسؤالنا الآن: كيف دخلت العلمانية إلى عالمنا العربي؟ ولماذا؟ وتاريخنا مختلف تماماً عن تاريخ نشأة العلمانية في أوروبا.

فكما ذكرنا سابقاً فإن الظلام الذي رزحت تحته أوروبا لقرون عديدة عندما سيطرت الكنيسة على الحياة يعد خير شاهد على ضرورة الانفكاك والتحرر من سلطتها.

ولكن العكس صحيح في عالمنا الإسلامي، فبعد قرون من التخلف الحضاري للإنسان العربي البسيط في الصحراء، تحول بالإسلام ليصبح مركز العالم في أسرع وأغرب وأعظم طفرة حضارية في تاريخ الإنسانية، عندما فُرّغ مصدر الوحي السماوي في الإسلام (القرآن الكريم) في هذا الإنسان فأخرج منه المعجزة.

وعلى مدى قرون كانت حضارة الإسلام في جميع مجالات الحياة، فهي خير شاهد على قدرة هذا الدين السماوي على تنظيم أدق مجالات الحياة وتحقيق القيادة والريادة لأمة الإسلام من اختراعات وابتكارات وأبحاث وعلوم وفنون، والأهم من ذلك في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

بل إن ابتعاد المسلمين عن روح دينهم القويم أدى إلى دخولهم في عصر الظلام، فالإسلام يدعو إلى إحياء العقل واستنهاضه وإدارته لمجالات الحياة، ويضمن حركة الفكر والتعبير وحق الاجتهاد، بل ويجعل التفكير والتدبير من أسمى صور العبادة. بل إن أول أمر نزل به الوحي الأمين هو كلمة (اقرأ) بمفهومها الشامل من قراءة الكون والآيات والأحداث والتاريخ. وأصَّل الإسلام في القرآن مبدأ السؤال، فقد ورد ذكر السؤال 126 مرة في القرآن، فعمقه القرآن وجذره في وجدان المسلم، ليعد مفتاح الاستنارة الحقيقية.

وكان التشريع السماوي الذي لا يحجب العقل، ففيه تمايز مؤسسي نجده في كل قضايا الحياة، ومثال عليه قضية تأبير النخل في قوله صلى الله عليه وسلم لصحابته (أنتم أعلم بأمور دنياكم) عندما سألوه، بل وحتى في قضايا مثل الجهاد، كما رأينا في قصة الحباب بن المنذر بن الجموح يوم بدر، حيث سار رسول الله يبادر قريشاً إلى الماء، فلما جاء أدنى ماء من بدر نزل عليه، قال له الحباب: يا رسول الله أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتعداه ولا نقصر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة) قال الحباب: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، ولكن انهض حتى تجعل القلب كلها من وراء ظهرك ثم غور كل قليب بها إلا قليباً واحداً، ثم احفر عليه حوضاً فنقاتل القوم ونشرب ولا يشربون حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله: (قد أشرت بالرأي) ففعل ذلك.

إنه دين يجعل من الشورى الملزمة قانوناً سماوياً، بل كان أغلى ثمن يدفع لتشريع سماوي في معركة أحد. فالرسول كان يريد البقاء في المدينة للقاء العدو لا الخروج منها. ولكن الشورى ألزمته بالخروج، حيث كان كثير من شباب الصحابة قد فاتهم فضل المشاركة في بدر، ورجوا أن يصيبوا من الفضيلة ما أصابه أهل بدر، فنزل رسول الله على رأيهم ولبس لامة الحرب، وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم جمع من كبار الصحابة منهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير‏:‏ استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه، فندموا جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له‏:‏ يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏(‏ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه ـ وهي الدرع ـ أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه‏)‏.

بل وإن ثمن تأكيد وترسيخ مبدأ الشورى الملزمة دفع له أغلى ثمن في الإسلام. حيث استشهد سبعون من كبار الصحابة في أحد، وعلى رأسهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وجاء القرآن ليؤكد مفهوم الشورى الملزمة في قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ...) (آل عمران: 159)

فكيف استطاعت العلمانية أن تدخل العالم العربي والإسلامي؟ ولماذا؟

لقد بقيت العلمانية خاصة بالغرب حتى القرن التاسع عشر، ثم دخلت العالم الإسلامي عن طريق الاستعمار الغربي الحديث، وكان لمصر السبق بحكم تطورها ومكانتها واستقلالها النسبي عن الخلافة الإسلامية والسلطان العثماني منذ ولاية محمد علي باشا في مطلع القرن التاسع عشر.

وبدأت القصة عندما رفع النظام الحمائي للصناعة والتجارة الذي أقامه محمد علي باشا في مصر وتزايد نفوذ التجار الأجانب في مصر، ونشأت في عهد الخديوي سعيد في سنة 1855م أول محكمة تجارية مختلطة بين المصريين والأجانب ومجلس للتجار. ومن هنا بدأ تسلل القوانين الوضعية الفرنسية شيئاً فشيئاً إلى البلاد، وبذلك فإن التسلل القانوني سبق الاستعمار العسكري للبلاد، وقد فصل الدكتور محمد عمارة في كتابه (العلمانية بين الغرب والإسلام) تاريخ دخول العلمانية في البلاد الإسلامية، فبعد اتفاقية حفر قناة السويس وتزايد أعداد الجاليات الأجنبية ونفوذها تم إنشاء المحاكم القنصلية لفض النزاع الناشئ بين الأجانب والمصريين، وكان قضاتها أجانب ولغتها أجنبية وقانونها وضعيا علمانيا، وزاد عدد هذه المحاكم حتى وصل إلى 17 محكمة قنصلية. ولتنظيم هذه الفوضى القضائية تم إنشاء المحاكم المختلطة.. قضاتها أجانب ولغتها فرنسية وتنهج قانون نابليون، وانتهى الأمر بأن عمت البلوى في جميع القضاء الأهلي فيما عدا المحاكم الشرعية المنحصرة في الأحوال الشخصية وشؤون الأسرة.

وفي مقال قادم بإذن الله سنتحدث عن العلمنة البنيوية والمعايير الجديدة التي أرستها في عالم القيم والأخلاق، وكيف أن كثيراً من المنتجات الحضارية اليوم والتي تبدو بريئة جداً أصبحت من أهم آليات هذه العلمنة الشاملة الكامنة، إضافة إلى أدوات العولمة التي أصبحت تحيط بنا من كل مكان.