لم يسبق لأهالي جازان أن انتظروا نتائج تحقيق كارثة كما انتظروا نتائج تحقيق كارثة حريق مستشفى جازان العام، وأعتقد بأن انتظارهم وإلحاحهم على سرعة ظهور النتائج كان عامل ضغط على الجهات التي تولت التحقيق.
لقد أعلن وزير الصحة عن جملة من الإجراءات لضمان عدم تكرار الكارثة في كل مستشفيات الوزارة ابتداء من جازان، كما أعلن الوزير مسؤولية وزارة الصحة عن استلام مبنى المستشفى المنكوب رغم ما فيه من العيوب القاتلة التي كانت في صلب المبنى. وأعلن الوزير أنه لا توجد شبهة جنائية في الكارثة، أي أنه لا يوجد شخص تعمد إشعال الحريق.
كما تضمنت توصيات التحقيق تعويض ذوي الضحايا ماديا وتكريم ذوي الأدوار البطولية أثناء الحريق. لكن الأهالي كانوا يتوقعون الإعلان عن أكثر مما سمعوا، فهم يرون أن الكارثة، بعدد ضحاياها وبموقعها، أكبر بكثير مما أظهره التحقيق.
لا بد أن نفصل بين "قصور" أداء الجهات المعنية الذي تراكم وتسبب في الكارثة، وبين "القصور" الذي رافق الكارثة، وبين "القصور" الذي تبع الكارثة وأوّله ما غفل عنه التحقيق أو على الأقل الجزء المعلن من نتائج التحقيق.
قبل سنتين في قضية "رهام الحكمي" التي حُقنت بدم ملوث بفيروس الإيدز سارعت الوزارة إلى فصل المتسبب في وجود عبوة الدم الملوثة، وكان موظفا بسيطا في بنك الدم بالمستشفى، وكشف التحقيق حينها أن الموظف كان يعمل لوحده في قسم الدم ويقوم بعمل زملائه الخمسة الذين لم يكونوا موجودين لسبب أو لآخر. صحيح أن الموظف يستحق العقوبة لكن "عدم وجود زملائه" والمسؤول عن عدم وجودهم كان أحد أسباب الحادثة.
لقد شُفِيَتْ "رهام" بلطف الله ثم بجهود الوزارة، لكن قصتها تبيّن أن الكوارث لها أسباب أخرى غير الأسباب المباشرة، وكارثة المستشفى التي راح ضحيتها 25 شخصا لها أسباب أخرى غير الأسباب المباشرة (التماس كهربائي.. عدم وجود قطاعات للدخان.. مثلا)، وهذه الأسباب الخفية المتراكمة كانت أكثر فاعلية من الأشخاص القائمين على رأس العمل في مديرية صحة جازان.
إن إعفاء مدير هنا أو هناك ليس عقابا إداريا (لا توجد في العقوبات الإدارية عقوبة تسمى عقوبة إعفاء)، فإعفاء المسؤولين المباشرين في الشؤون الصحية بجازان شيء أخلاقي حتى لو اتضح من التحقيق أن لا يد لهم في الكارثة، لكن الكارثة في النهاية وقعت تحت مسؤوليتهم وأثناء إدارتهم.
قال الوزير إن الوزارة تتحمل مسؤولية استلام المبنى وتشغيله رغم ما فيه من عيوب نبّه لها الدفاع المدني أكثر من مرة، لكن التحقيق لم يذكر اللجنة التي استلمت المبنى وهل شارك الدفاع المدني في الاستلام؟.
وأكثر من ذلك لم يذكر التحقيق من هو مقاول البناء الذي استلمت الوزارة المبنى منه.
44 مليون ريال لإنشاء المبنى و26 مليون ريال للصيانة السنوية، فهل هذا المبلغ هو فعلا المبلغ المرصود لإنشاء المستشفى بكامل مواصفاته المدونة في اشتراطات العقد وصيانته؟ أم هو المبلغ الفعلي الذي صرف على المبنى وصيانته ليظهر بهذه العيوب؟
من دون التعرض للمقاول أو لسلسلة المقاولين على إنشاء المستشفى فإن التحقيق لم يأت بجديد، فمسألة تحمل الوزارة لمسؤولية استلام المبنى ومسألة التعويض كلها مسائل متوقعة ومعروفة سلفا.
ومن دون التعرض للإدارات الهندسية والرقابية والمالية في وزارة الصحة التي أشرفت على المبنى من يوم توقيع العقد إلى يوم وقوع الكارثة فإن التحقيق لم يأت بجديد.
ومن دون التعرض لطريقة ترسية المشاريع وتنظيم العقود فإن "المنهج الخفي" في الإدارة، وقد يكون من خارجها، سيظل أكثر فاعلية من الأسماء والمناصب.
صحيح ليس لدينا شخص أشعل الحريق يمكن توجيه التهمة الجنائية إليه، لكن هناك جناية ضحيتها 25 نفسا، وبالتأكيد أن هناك ذمّة أو ذِمَماً وأنظمة وإدارات مسؤولة عن موت هؤلاء الأبرياء.
هذا أمر لا تفصل فيه إلا المحاكم.
ما زلنا ننتظر نتائج التحقيق في كارثة مستشفى جازان العام.