خريطة تركيا الحالية لم تُشيّد على هذا النحو إلا بعد كفاحٍ عظيم مملوء بالدم قاده الوطنيون الأتراك، بعد أن رأوا أرضهم يمزقها الحلفاء أشلاءً بمقتضى معاهدة سيفر عام 1920م، والتي جاءت قسراً عقب إعلان الدولة العثمانية استسلامها لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى عام 1918م. أراضٍ كبرى، وعدة مناطق من شرق الأناضول وغربه وجنوبه فقدها الأتراك لمصلحة الحلفاء بمقتضى هذه المعاهدة المُذلّة التي وقعها السلطان العثماني آنذاك، غير أن الوطنيين الأتراك – أتاتورك ورفاقه – لم يعترفوا بهذه الاتفاقية، وانحازوا إلى أنقرة في قلب الأناضول، وجمعوا قواتهم، ليبدؤوا رحلة طويلة من الكفاح، فدخلوا في معارك دامية مع الجيش اليوناني الذي كان قد نزل بمدينة أزمير الاستراتيجية المطلة على بحر إيجة تحت حماية أساطيل الحلفاء واجتاح غربي الأناضول. كان من أشهر تلك المعارك معركة سقارية المشهورة غربي الأناضول، والتي كان من نتائجها تحرير مدينة أزمير، وإجبار القوات اليونانية على الجلاء، كما خاض الوطنيون الأتراك حرب استنزاف ضد القوات الإيطالية والفرنسية حتى أجبروها هي الأخرى على الجلاء والانسحاب من الأناضول. ولأن الوطنيين الأتراك كانوا يمتلكون رؤية سياسية واضحة وعادلة تتمثل في أن تكون تركيا – أرض الأناضول – للأتراك، فقد لعبوا على تناقضات مصالح الحلفاء فيما بينهم، وذلك بالتوازي مع الكفاح المستمر الممتد لبضع سنين حتى تمكنوا في النهاية من فرض الأمر الواقع على الحلفاء الذين قرّروا اتفاقية لوزان عام 1923م التي جاءت ناقضةً لمعاهدة سيفر.

لقد كانت هذه المعاهدة الجديدة هي المُحددة والمشكّلة لخريطة تركيا الحالية، وهي خريطة في غاية التعقيد بسبب موقعها الاستثنائي الرابط بين الشرق والغرب، وبسبب اشتمالها على عدد من الإثنيات والمذاهب المتعددة. ولأن هذا البلد الذي نحته التاريخ واجترحه بهذه الكيفية، وجعلت منه الجغرافيا بلداً متأثراً بما يعتمل في الشرق والغرب على حدّ سواء، فإنه لذلك لا محالة مجبر على أن يكون له فعله التاريخي الخاص به لا سيما في هذه المرحلة التي تشهد تغيرات كبيرة في المشرق العربي. الحدود الجنوبية لتركيا مع البلدين العربيين سورية والعراق الممتدة لحوالى 700 ميل، تشكل مأزقاً كبيراً بالنسبة إلى تركيا نظير ما يعتمل في هذين البلدين من اقتتال، وأعمال عسكرية كبرى، وتصارعٍ لعدد من القوى الدولية والإقليمية. هذه المسافة الطويلة والملتهبة تجبر تركيا على عدم البقاء على الحياد أو حتى غض الطرف عما يعتمل فيهما، وتجبرها كذلك على أن يكون دورها في هذين البلدين، والصراعات المحتدمة فيهما دوراً مهماً جداً إذا ما أرادت البقاء لخريطتها السياسية! الأكراد المتواجدون في العراق وسورية يطمحون إلى بناء خريطة سياسية خاصة بهم، وهي لن تقوم حتماً على أشلاء خريطة العراق وسورية أو بمعنى أدق لن تتوقف على اقتطاع أراضي هذين البلدين، بل قد تمتد إلى جزء من تركيا، خاصة مع استحضار الأقلية الكردية ذات الوزن الثقيل في تركيا. لقد وقفت تركيا موقفاً صارماً من النظام السوري يقضي بضرورة الإطاحة به وبرئيسه بشار الأسد، ومرد ذلك – بصرف النظر عن البعد الأخلاقي المتعلق بالموقف من الجرائم المروعة بحق الشعب السوري – أن النظام السوري استحال إلى نظامٍ طائفي فجّ، وارتهن في صراعه إلى إيران وحزب الله. هذا يفضي بشكل صريح إلى وجود النفوذ الإيراني في بلاد الشام وديمومته، الأمر الذي لن يكون في مصلحة أنقرة لا سيما مع استحضار وجود الأقلية العلوية التركية في جنوب الأناضول، علاوة على أن الأتراك لم تزل ذاكرتهم تمنحهم صورة سوداوية تجاه إيران، والمتمحورة حول الصراع التاريخي القديم، المتعلق بالحروب التاريخية العاتية بين العثمانيين والصفويين ذات الطابع المذهبي في العراق وبلاد فارس إبان القرن العاشر الهجري. نجاح تركيا في بقاء خريطتها السياسية على هذا النحو يعد في مصلحة المشرق العربي ذاته، فالتقسيم الذي يتردد صداه في بعض الدوائر الإعلامية وبصورة تبدو تآمرية تجاه العراق وسورية لن يكون ممكناً طالما بقيت تركيا قوية وفاعلة، وخريطتها السياسية ثابتة على هذا النحو، ذلك أنه من غير الممكن على الإطلاق أن يتم تقسيم العراق وسورية بناءً على إثنياته وطوائفه الممتدة أصلاً إلى تركيا، ومن ثم فتركيا هي وَتَد مغروز يُحرزُ التخوم الشمالية لخريطة المشرق العربي برمّته، ولذا فمن المهم جداً الرهان على هذا الوتَد والتمسك به !