جاءت الوسائط الحديثة والأجهزة الذكية بما لم يأت به الأوائل. كان المبدع في الوسائط التقليدية كمن يحفر في الصخر حتى يتحقق له القبول والنجاح، بل يمضي وقتا طويلا حتى يتم له اكتساب النجومية، ورغم كل ما يحصده من جماهيرية ولمعان إلا أنها رغم كل شيء تظل منقوصة ومحدودة الانتشار، وذلك نسبة لمحدودية انتشار الوسائط التقليدية (صحف ورقية أو إذاعية أو حتى تلفزيونية)، لكن مع انتشار الأجهزة الحديثة ووجودها في كل وقت، وفي كل يد، وفي كل الأعمار ولدى الذكور والإناث المتعلمين منهم وأنصافهم، بل والأميين فإن تأثيرها امتد ليشمل القاعدة الأعرض من الناس، وهذا بدوره انعكس على سرعة الانتشار من خلال التداول والمناقلة التي تتم بين الناس سواء تم التداول بسبب الإعجاب أو بسبب الاستهجان.

ومن هذه الأسباب، فقد صارت الوسائط الحديثة سبباً رئيساً في سرعة صناعة النجومية أو الجماهيرية، ولم يعد المحك هو جودة ما يقدم، ولكن المحك الذي يسرع في الانتشار هو مغايرة السائد وخرق "التابو" وإحداث المفاجأة من خلال ممارسة التهريج أو الإدهاش أو الابتكار أو التعدي على الثوابت الاجتماعية.

وهكذا صار من المتيسر على كل من يخالف أو يمارس مصادمة المعتاد أن يكتسب أكبر قدر من المشاهدة ثم التداول، ولهذا فقد برز العشرات أو المئات من الحمقى والمغفلين وحققوا لأنفسهم قاعدة عريضة من الأتباع، وأصبحوا نجوماً يحتفى بهم، وتتم استضافتهم والتهافت على التصوير معهم.

 لقد جذبت هذه النجومية السريعة كثيرا من الشباب والشابات لتقديم أنفسهم بكل ما هو مختلف وغير تقليدي، وكل ما هو مدهش وشاذ ولافت للأنظار سواء على صعيد الكلام وطريقة اللهجة أو على صعيد الشكل والملبس. أحدهم يقدم نفسه مثلاً بالملابس الداخلية (فنيلة علاق وسروال قصير)، ولا يكترث من بعض الانتقاد أو الاستعابة كردة فعل، لكن ما يحصده من إقبال يجعله يمعن في هذا النهج، وهكذا مع أبو قذيله، أو أبو طاقية، أو ذلك الذي يخرج لنا من تحت شلال أو في غابة مطيرة، وقد يكون المضمون جلدا لبعض عاداتنا وأعرافنا، وقد يكون المشهد لأبو"سروال وفنيله"، وهو يتجول بكل أريحية وحرية في إحدى العواصم الأجنبية، وقد تكون منصة التقديم عبر واتساب أو تويتر أو إنستجرام أو بواسطة الوافد الأحدث وهو "سناب شات"، والذي قدم لنا المذكرات المرئية وبعض اليوميات لبعض نجوم السناب، والتي يقدم فيها "النجم" نفسه في كل الظروف وكل الأزمان وكل الأماكن، وحتى صار كثير من نجوم الوسائط يتكسبون من هذه النجومية من خلال تسويق منتجات الآخرين مقابل مبلغ محدد بسبب حجم المتابعين لهم، والذي يتجاوز مئات الألوف بما يضمن تسويقا عريضاً لأي سلعة مستهدفة بالترويج.

  أنا لست في وارد الاعتراض على هذه المنح التكنولوجية، لكنني أعرض لواقع أحدثته الوسائط الحديثة مقابل ما كانت تقوم به الوسائط التقليدية من التركيز على الجودة عوضاً عن التلهف وراء الجماهيرية.

  هذا هو الزمن "المنكوس" الذي يتسيد فيه المشهد حشدا من أرباع المتعلمين وبعض المهرجين وأطوار من الخارجين عن السمت الاجتماعي من الغافلين أو الحمقى أو العاطلين الذين جاؤوا على حين غرة ليجربوا حالة القبول وصدى ما يفعلونه، ثم صاروا من النجوم الملاحقة بالإعجاب والمتابعة، فهم كما يقول المثل: جاء يطل وغلب الكل.