لم يعد في الوقت متسع لنغفر لمن يستخدمون منطوقا لا يطابق مفهومه، فالأرض تموج من تحت أقدامنا جراء منطوق نقذفه فيعمل هنا ويمر هناك، فنملأ الدنيا ضجيجا بكلمات نرددها كالببغاء ولا نكلف أنفسنا أن نتصفح قواميس هذه المصطلحات التي امتلأت بها مكتباتنا، ووفرها لنا أيضا الفضاء الإلكتروني، فنهدر المعرفة على قارعة الطريق.

إذا ما نطقت "الحداثة" على سبيل المثال سنجد أن أغلب من يتحدث عنها يرى أنها تحمل معنى كل ما هو حديث، بينما للحداثة القديمة مفهوم وللحداثة الحديثة مفهوم وللغربية مفهوم يختلف عن مفهوم النسخة العربية له، فإذا تحدث أحدنا عن الحداثة لم نعلم عن أي حداثة يتحدث، القديمة أم الحديثة أم الغربية أم النسخة العربية منها؟! وأما عن العولمة مثلا! فقد ورد في إحدى الصحف المحلية تحقيق صحفي عنها وعن أثرها، فوجدت أن أناسا محسوبين على الفكر والثقافة لا يفرقون بين العولمة وبين العالمية! وكذلك الليبرالية والجنسوية والديمقراطية والبيروقراطية والتكنوقراطية، وغير ذلك من المفاهيم التي يجب أن نعرف كنهها ومساراتها قبل أن نصدح بالقول في محافلنا ونبدي رأينا في مدارات مفهومها، دون أن نفهمها وما تنسحب عليه في حياتنا بحسب شغلها الحقيقي!

فالمفهوم كما يعرفه قاموس (أكس فورد) هو: (بالإنجليزية: Concept) تصور ذهني عام ومجرد عن أشياء الواقع. ويعتبر بعض الفلاسفة المفهوم في علاقته الأساسية بالوجود أو بالموجودات، سواء أكانت تصورات في الذهن أم عيانا في الواقع الخارجي، مما يجعله مرتبطا بمشكلات المعنى والدلالة والإحالة. ولعلنا نجنح إلى القول بأن المفهوم هو التمسك بمشكلات المعنى والدلالة والإحالة عبر تعريفات اصطلاحية متفق عليها. ومن هنا نستخدم الكلمة أو الجملة حين نكون مدركين للمفهوم لما له من معنى ذي دلالة وإحالة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يتوجب علينا أن نبحر في بواطن الكلم الذي أبحر فيه أجدادنا وتركوا لنا رصيدا ليس بهين عن كنه المعاني وبواطن الكلم!

وقد أعجبني قول الروائي يوسف زيدان في حديث مهم له عن هذه القضية، فيقول على سبيل المثال متسائلا: (لماذا يسمي الأب ابنته بين أخواتها هبة، لماذا يختصها هي دون إخوتها بأنها هبة الله!) فالثقافة من هذا المنظور تصبح في خطر، لأن مفهوم المعني يختبئ وراء مقولات قد تكون غير مناسبة لها في غير سياقها!

إن لغتنا العربية قد أعجزت العلماء شرق الدنيا وغربها، لكننا وبكل أسف لا نبحر في مفهومها ولا نبحث عن كنهها.