تحدثنا في مقال سابق عن العلمنة البنيوية التي عرفنا أن أهم آلياتها في العالم، الإعلانات التلفزيونية التي قد تبدو ظريفة طريفة خفيفة الظل مسلية، بل وبالغة البراءة، فهي تروج لرؤية للعالم دعامتاها الجنس والاستهلاك، وبذلك يتم تعظيم هاتين القيمتين في أعين ووجدان الإنسان، وهذا بالفعل ما نجحت هوليوود في تحقيقه من علمنة وجدان سكان الكرة الأرضية.

ومن الأدوات الأخرى الفعالة، انتشار المصنع والسوق كوحدات أساسية ومركزية أفرزت ما نسميه بأخلاقيات السوق وقوانين البيع والشراء والطلب، وما لكل هذا من تأثير على علمنة وجدان الإنسان الأميركي وتهميش القيم الأخلاقية والإنسانية والدينية.. كل ذلك أدى إلى تغيير جذري في طريقة تفكير ووجدان الإنسان في عصر العولمة، وأصبح يفكر بطريقة هندسية آلية مادية كمية ويسميها موضوعية، وأصبح الإيمان محصوراً في نطاق الشعائر التعبدية، وأصبحت المادة منفصلة عن القيم الأخلاقية والإنسانية والدينية، وتوظف لتعظيم اللذة وزيادة المنفعة المادية، وبذلك أصبحت كل قيمة أخلاقية لها قيمة نسبية، وليس هناك أي مطلقات وأفرز كل ذلك قاعدة (البقاء للأصلح)، بدلاً من أن تكون (المكوث للأنفع)، وبذلك أصبحت بنية المجتمع نفسها تولد رؤية معرفية أخلاقية علمانية شاملة، كما أكد على ذلك المسيري في بحثه المطول.

وقد ساهمت الهجرة من القرية إلى المدينة من خلال عمليات التصنيع والتمدن (Urbanization) في تأكيد وانتشار نمط الحياة في المدن، وبذلك ظهرت صور جديدة من التكافل والتضامن بين أفراد المجتمع غير سابقتها من الأسرة والقبيلة، مما ساهم في تفكيك الأسرة وسارع في إنجاح عمليات العولمة.

ومن أخطر وسائل أدوات العولمة كذلك المرأة والتمركز حول المرأة، والتي انطلقت في بادئ الأمر تحت شعار الحركة النسوية (Feminism) إيماناً بحق المساواة بين الرجل والمرأة لتعيد للمرأة كثيرا من حقوقها التي سلبت منها، سواء كانت حقوقا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ثم تطورت هذه الفكرة وتحولت لتصبح تمركزاً حول المرأة.

والقصد هنا أنها تحولت لتصبح صراعاً بين الرجل والمرأة، وهذا متوافق مع النظرة الأحادية الإمبريالية، صراع بين الإنسان وأخيه الإنسان.. بافتراض أنه لا توجد مرجعية مشتركة بينهما، فالمرأة متمركزة حول ذاتها.. لن تجد نفسها إلا من خلال اكتشاف نفسها وتحقيق كيانها خارج أي إطار اجتماعي. وهي في حالة صراع دائم أزلي مع الرجل. والذي هو كذلك متمركز حول ذاته.

بل إن النظام العالمي الجديد باستخدام أدوات العولمة وعلى رأسها الإعلام المرئي والإعلانات استطاع بعملية ماكرة أن يعيد تعريف قضايا المرأة وتغيير نظرة المرأة لنفسها ووجدانها، بحيث لا ترى أنها يمكن أن تحقق كيانها وهويتها إلا خارج إطار الأسرة، وهذا أدى إلى تآكل وتفتت رباط الأسرة، وتهاوى بذلك أهم حصن ضد التغلغل الاستعماري وهيمنة العولمة الغربية.

وتعد الشركات العملاقة عابرة القارات ومتعددة الجنسيات أحد الأشكال والصور المتطورة لأدوات العلمنة في مراحلها المتقدمة في متتالية تحقيق العلمانية الشاملة، بل وأصبحت الأداة الرئيسية في هذه المرحلة وهي تمارس وظيفتها في عولمة نمط حياة الإنسان بكفاءة عالية جداً منقطعة النظير.

إن حضارة العلمانية هي حضارة تفكيكية، تسعى لتفكيك الفرد من أسرته ومن بيئته ومن أمته باستخدام العناوين البراقة، تارة باسم الفردية وتارة أخرى باسم الحرية الشخصية أو التنوير أو حقوق المرأة وتحريرها، بل وتنتظر من جميع أهل الأرض أن يتبعوها، لأنها تستجيب لنوازع الإنسان الطبيعية.

حقاً لقد أصبحت العلمنة ظاهرة اجتماعية كاسحة، ولم يعد هناك مجال من مجالات الحياة في منأى عن تغلغل نمط الحياة العلمانية: فالدولة العلمانية بأدواتها الفعالة من مؤسسات تعليمية وتربوية وإعلامية وترفيهية قد وصلت إلى وجدان كثير من البشر وأعادت صياغة طريقة تفكيرهم.

ومن إحدى ثمار طريقة التفكير العلمانية هذه، جعل زواج المثلية قانوناً في أميركا، بل وتجريم من يسفه هذا القانون أو يتعرض له بسوء، رغم أن هذا الفعل يعد خطيئة كبرى غلظت جميع الشرائع السماوية من عقوبتها بأقصى عقوبة وهي الموت، في حين يجرم في أميركا التعدد (زواج الرجل بأكثر من امرأة)، مع أن الكتب السماوية تحل ذلك، وقدمت أمثلة عديدة من أنبياء الله يعددون، كأبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام وسيدنا يعقوب وسيدنا يوسف وسيدنا سليمان، وخاتم الأنبياء سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

إن المعركة الحقيقية القادمة لأمة الإسلام لم تعد معركة تحرير أرض كما كان في الماضي، بقدر ما أصبحت معركة تحرير فكر، إنها عملية إيقاظ الوعي المسلم ليدرك مدى تغلغل هذا الفكر العلماني في وجدانه وذرات جسده. إنها إعادة تفعيل العقل الإسلامي كأداة في خدمة الروح - المصدر، وتحديد الثوابت والمتغيرات ليكون المسلم خليفة الله في الأرض قادراً على القيام بدوره الحقيقي على وجه هذه الأرض وعمارتها كما يحبها الله أن تعمر.

إنها أهم مهمة على وجه هذه الأرض. إنها إعادة ربط الإنسان بالوحي السماوي وبتفعيل عقله وفكره بثوابت أخلاقية وشرائع دينية شرعها خالق الإنسان، الأعلم بما يصلحه في كل مكان وحال وزمان.

قال تعالى (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون) (الأنعام: 136).

(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء:65).

(ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) (الأعراف: 54)

(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (الأنعام: 162 – 163).