ترسخ في ذهن العقلية الفارسية مشكلة الآخر العربي الأزلية، ولعل الدافع الرئيس هو تمكن المسلمين العرب، في ظل قلة العدد والعتاد مقارنة بالفرس، من هزيمة الجيوش الفارسية، وعلى رأسها القائد رستم، فتم فتح بلاد فارس وكتابة الصفحة الأخيرة في تاريخ الإمبراطورية الفارسية. يقول المحلل السياسي والمفكر الإيراني المعاصر الدكتور صادق زيبا كلام: الكثير من الإيرانيين يكرهون العرب، ولا فرق بين المتدين وغير المتدين في هذا المجال. ويضيف "يبدو أننا كإيرانيين لم ننس بعد هزيمتنا التاريخية أمام العرب، ولم ننس القادسية بعد مرور 1400 عام عليها، فنخفي في أعماقنا ضغينة وحقدا دفينين تجاه العرب وكأنها نار تحت الرماد قد تتحول إلى لهيب كلما سنحت لها الفرصة". الواقع أن هذه العقدة ظلت في المخيلة الفارسية حتى وإن خفتت لقرون من الزمن، إلا أن انبعاثها وظهورها إلى السطح لا يحتاج إلا إلى القليل من المحفزات القومية والعزف على الماضي. ولذا نجدها بلغت أوجها في القرن العشرين عندما حاول رضا شاه إعادة إحياء الروح القومية والإمبراطورية في بلاده خلال موجة النزعات القومية التي اجتاحت الشرق الأوسط والعالم في تلك الحقبة واستمرت، بمستوى وأدوات مختلفة، حتى يومنا هذا. لقد كان الآخر العربي، ولا يزال، العنصر الأبرز والأكثر تأثيرا في الهوية الإيرانية الحديثة على الرغم من تفاخرهم، سواء بالماضي المفقود أو بالثقافة الغربية الجديدة من خلال ارتباطهم بالعرق الآري. رأوا في الآخر العربي السبب الرئيسي في تراجع بلادهم عن ركب الحضارة الحديثة، ليس ذلك فحسب، بل أساس انتشار العادات الذميمة بين أفراد المجتمع الإيراني، من كذب وخداع وتقية وعدم اهتمام بالعلم والتعلم، هذا من جانب، ومن جانب آخر تخلى الإيراني عن صفاته الجميلة وعاداته السامية التي رسمت في كتب التاريخ كأجمل ما يميز الإيراني الأصيل، حسب زعمهم.

من العقد التي تعيشها الشخصية الفارسية أمام العرب هي أنه على الرغم من التغني بالتاريخ والحضارة الفارسية إلا أن الفرس لم تكن لديهم طيلة كل هذا التاريخ أبجدية لغوية خاصة بهم. ففي عصور ما قبل الإسلام استخدم الفرس الأبجدية البابلية السامية أو ما يعرف بالخط المسماري الذي كان منتشرا في بلاد ما بين النهرين، وكانت الكتابة في بلاد فارس محصورة في الطبقة الملكية ورجال الدين ويمنع عامة الناس من التعلم والتعليم. وبعد الفتح الإسلامي، ولصعوبة الخط المسماري وقلة من يجيدون الكتابة أو القراءة باللغة الفارسية البهلوية (الفارسية الوسطى)، اندثرت اللغة الفارسية لقرنين من الزمن، حقبة يطلق عليها القوميون الإيرانيون مسمى "قرنين من الصمت"، قبل أن تتم إعادة إحياء اللغة ولكن بالأبجدية العربية، وظل استخدام هذه الأبجدية حتى العصر الراهن، على الرغم من بعض المحاولات في القرن التاسع عشر الميلادي باستبدال الأبجدية العربية باللاتينية إلا أن جميع المحاولات في إيران باءت بالفشل، على عكس ما حدث في تركيا بعد وصول أتاتورك إلى السلطة. علاوة على الخط، نجد القاموس الفارسي يعج بالمفردات والمصطلحات والعبارات العربية إلى درجة وصول نسبتها إلى 60 % وربما 70 % من إجمالي المفردات المستخدمة في اللغة الفارسية. أيضا، هذه الحقيقة أثارت حفيظة القوميين الفرس، ولذا تم تأسيس "الفرهنگستان" أو مجمع اللغة بهدف "تطهير اللغة الفارسية من المفردات الأجنبية، خاصة العربية منها"، بل وصل التعصب عند بعض القوميين إلى درجة الدعوة إلى استبدال الكلمات العربية بفارسية وإن تعذر ذلك تم استبدالها بمفردات تقابلها من اللغات الأجنبية الأخرى كالإنجليزية والروسية والفرنسية". من المؤثرات السلبية على المخيلة الفارسية تجاه الآخر والعربي والثقافة واللغة العربية، وجود شخصيات وعلماء وأدباء من بلاد فارس في العصور الإسلامية المتقدمة والوسطى فضّلت الكتابة باللغة العربية دون الفارسية، ولعل السبب في ذلك أن العربية في تلك الحقبة قد ازدهرت وأصبحت لغة العلم والأدب والثقافة.

إن هذا الخلل في الهوية الإيرانية قد يستمر لعقود مقبلة، لأن الشعارات والخطب السياسية، علاوة على المنتج الثقافي والإعلامي في إيران قد عزز هذه الأزمة في الشخصية الإيرانية من خلال الأفلام والمسلسلات وأدب القصة القصيرة والرواية والشعر ونحو ذلك، وما لم يكن هناك مشروع جاد يعمل على حل أزمة الهوية التي تعيشها شريحة كبيرة من الشباب الإيراني في الداخل والخارج، فإن الأمر قد يقود إلى مزيد من الصعوبات لدى هؤلاء الشباب في فهم هويتهم وتجاوز مسألة عدم الاتزان في الهوية الذي يعيشه كثير منهم في الوقت الراهن.

لقد أبدع الكاتب والمفكر الإيراني المعروف الذي يعيش حاليا في المهجر عبدالكريم سروش عندما قال بأن الإيراني يعاني من "أزمة في الهوية" Identity Crisis، جعلته يترنح بين ثلاثة أصناف من الهوية لا يعلم حقيقة إلى أي منها ينتمي وأي صنف منها يمثل ثقافته وتاريخه. هذه الأصناف الثلاثة هي: أولا، الهوية الدينية الإسلامية التي صورها بعض القوميين الإيرانيين، بشكل أو بآخر، بأنها هوية أجنبية وغريبة لا تمثل العنصر الإيراني (الفارسي)، بل تجعله أقرب إلى العرب منه إلى ذاته الفارسية. ثانيا، الهوية الفارسية التي تتغنى بالماضي (ما قبل الإسلام) وتعتصر ألماً على فقدانه، وهذه الهوية تمت بلورتها في مدارس الاستشراق والاستعمار، ولكنها حظيت بقبول كبير لدى الشخصية الإيرانية الحديثة. ثالثا وأخيرا، هوية تتقمص الثقافة الغربية وتتبناها بشكل كامل وتنسلخ تماما من كل شيء قديم ما عدا اللغة الفارسية. إلا أن المشكلة ليست في التنظير، بل في تطبيق هذه النظرية وتقمصها، فقد كان من الصعوبة بمكان اختيار أحد هذه الأصناف دون أن يحتوي على أي من مكونات الصنفين الآخرين.

في الختام، ليس كل الفرس على نمط واحد، فهناك علماء وأدباء فرس تجاهلوا العقدة التاريخية وتجاوزوها، بل ودافعوا عن العرب وثقافتهم ولغتهم وحضارتهم وتغنوا بالعربية وفضّلوها على لغات العالم ومن بينها الفارسية. صحيح أن جُلّ هؤلاء قد برزوا في العصور المتقدمة بشكل أكبر مقارنة بالعصر الحاضر الذي خبأ فيه هذا الصوت بدوافع وأسباب سياسية ومذهبية وأيديولوجية ونحو ذلك، إلا أننا لا نستطيع إنكار وجود مثل هؤلاء في الوقت الراهن وإن ضاع صوتهم في بحر متلاطم يسير في الاتجاه المعاكس لهم. والسؤال الأبرز هو هل ستعمل إيران على التخلص من عقدة العرب في أدبياتها وتدرك أن الواقع الجغرافي لا يمكن تغييره، كما أن العزف على التاريخ وإثارة النعرات الطائفية والقومية لا يغيران من الواقع شيئا؟ أتمنى ذلك!