ما معنى أن تكون مثقفا؟ بكل بساطة أن تمتلك ثلاثة أمور، أولها (الوعي والإدراك)، ثانيها (الإحساس والمشاعر) تجاه هذا الوعي والإدراك، وثالثاً (رأي ومواقف) مترتبة على العنصرين السابقين، ويبقى التفصيل والتوضيح لإزالة اللبس.
قد يفاجئك أحد اللزجين بقراءات كثيفة في الفلسفات وعلم الأنثربولوجيا، تشعرك لأول وهلة من سماع مفرداته الجديدة أنه قد امتلك (الوعي والإدراك)، لكنه يرسب بامتياز في الشرط الثاني (الشعور والإحساس)، فما يطرحه يمنحك وهماً عن وعيه وإدراكه العالي، يفضحه شعوره وإحساسه الدهمائي تجاه الأشياء، والذي لا يتناسب مع مفرداته التي تؤكد لك أنه مجرد (مذاكر كويس) لكل ما اضطرته الظروف لقراءته خارج دائرته الضيقة التي علمته كيف يعقم نفسه، والتعقيم هنا بمعنى (العقم)، أي أن يعيش حالة الإجابة المغلقة، التي تعجز أن تحمل بداخلها السؤال المعرفي الجديد، فالسؤال لا تستثيره سوى بذرة (الشك المعرفي) والتي تساعد على تلقيح العقل ليتفتق به ومنه (الوعي والإدراك)، لكنه يعقم نفسه ضد هذه البذرة، ويقتل رشيمها بالإجابات المغلقة لكل معارفه الجديدة بعبارة يكررها على نفسه قبل أن يكررها عليك تجاه كل العلوم الإنسانية والمعارف الجديدة (هي موجودة عندنا وفي تراثنا قبل الشرق والغرب بألف وأربعمئة سنة)، ويصل العمى الأيديولوجي وتزييف الوعي ببعضهم ليجعل القرآن الكريم كتاب جغرافيا ورياضيات وفيزياء وكيمياء وصيدلة وطب بدل أن يكون كتاب هداية ورحمة للعالمين.
إذًا قد يلتبس عليك هؤلاء فتتهمهم زوراً بالوعي والإدراك عندما تصادف بعض (المذاكرين كويس) في الكتب التي أجبرهم واقع الظروف على قراءتها، دون أن يكسروا بيضتهم، بل يزدادون في إحاطتها بالكلس أكثر، وتعقيم عقولهم أكثر فأكثر، عبر تخريجات وترافعات كثيرة، منها الحفاظ على الهوية كصفارة بيض نيّئة (تكاد رائحتها تزكم الأنوف إذا احتكت بالعالم خارج حدودها) والحفاظ عليها عندهم لا يكون بالنضج المعرفي والخروج للعالم بأجنحة محلقة قوية وكسر الكلس النفسي المحيط بهم وبعقولهم، ولكن في الحفاظ على هذه القشرة البيضاء، كأنها في ذاتها فخر رغم ما فيها من دلالة الطفولة والعجز الحضاري، علماً بأن (مصطلح الهوية) وما وقع فيه من خلاف (مصطلح حداثي)، أي أن حالهم في سجنهم المعرفي يشبه ذاك الذي وصفت له السيارة فلم يتفكر فيها وفي دلالتها الحضارية ولم ينشغل بالتفاصيل التقنية التي بداخلها بقدر انشغاله بأنها ما زالت تقاس قوتها بالحصان، فيكرر عليك مهللاً كالطفل: هل رأيت؟! ما زال حصان أجدادنا هو معيار قوة هذه السيارة؟!.
إذًا (الوعي والإدراك الحقيقي) يرتبط بما اطلع عليه الشخص ويصاحبه (إحساس ومشاعر حقيقية) وجديدة تستثير السؤال إثر السؤال، تتناسب ومخرجات معارفه الجديدة التي يحكيها، وإلا فإن المعارف الجديدة التي قرأها ليست إلا محفوظات جرى تعقيمها داخل عقله، ليموت الإحساس والشعور تجاه ما تتركه هذه المعارف والتجارب داخل الإنسان الطبيعي من أسئلة وجودية جديدة، فقد يحدثك أحدهم حديثاً طويلا عن سماحة الإسلام الظاهرة في مقاصده العامة، التي تؤكد هذه السماحة والرحمة واليسر، ولكنه على مستوى الإحساس والشعور ما زال يعيش عماه الحقيقي لا وعيه المفترض، إذ تراه في أقرب امتحان شعوري لأحاسيسه يتخلى عن مقاصد الإسلام الثابتة إلى أقوال البشر واجتهاداتهم الخاصة المتغيرة فيتحول إلى طائفي إثني، فهذا من الطائفة كذا فلا نأكل من ذبيحته، أو القبيلة كذا فلا تكافؤ نسب بيننا، أو رجعي ممانع ضد أن تصبح أخته طبيبة أو ممرضة أو محامية.
كل هذا ولم نتعد عتبة الوعي والإدراك ليصبح الشخص مثقفا، ولهذا لا نستغرب أن يتضايق الكثيرون ممن يتحدث عن الصحوة/ الغفوة ومشاكلها على المستوى السياسي والاجتماعي، لأنه يصدمهم في وعيهم المزيف وعماهم الأيديولوجي الذي ما زالوا ينظرون به للعالم، فتراهم حتى في تعليقاتهم يحاولون توسيع دائرة الزيف الفكري الذي يعيشونه ولم يفيدوا من آثاره الموجعة عليهم، وعلى وطنهم، ومن أسبابه فقدانهم الشجاعة الفكرية ليكونوا طليعة، فالطليعة لها مواصفات لا تتوفر فيهم، ولهذا هناك ما هو أسوأ من عدم الموهبة، وهو أن تكون نصف موهوب، ونصف قارئ، وأخيراً صاحب نصف موقف بين نور الوطن وظلام الإرهاب، فلا يريد أن تخسر داعش ولا يريد أن ينتسب لها، أما شجاعتهم الأدبية فتقوم على تعصب الدهماء، ومواقف الغوغاء.
الصحوة/ الغفوة لو تحدث علماء الأنسنة عن مشاكلها على المستوى الاجتماعي والفكري في مجتمع تحالف عليه مع الغفوة الفكرية المزاج الاستهلاكي للأفراد، لاكتشفنا أسرار هذا الوهن الاجتماعي حتى عن إدراك المواطن لحقوقه، عدا أن يدرك واجباته تجاهها، فيختلط عليه (الدين بالعادات)، فتنتج (الصحوة/الغفوة السرورية)، و(الدولة بالقبيلة) فتنتج (الأوليجاركية الريعية)، فينقل عصبيته القديمة بكل حمولتها النفسية إلى مفاهيم تلبس لغة الدين حيناً لتصفية خصومة، ولغة الدولة أحياناً أخرى لإبعاد شركائه في الوطن، ويبقى وراء هذه اللغة الملساء ذاك الجلف الصلف العَتِل الذي يفاخر بالغزو والبربرية لكن باسم الغيرة على الدين والدولة، ويحتقر كل ما له علاقة بالحضارة الإنسانية منذ أربعة آلاف سنة وآثارها التي حطمت بعضها داعش وحتى عهد مركبة كيوريوستي روفر لاكتشاف المريخ التي يستحيل أن يستوعب دلالتها الحضارية من يقرأ أمطار المناطق وسيولها حسب توزيع المعاصي في عقله بين الناس.