يعرف كل مستعملي السيارات اليوم ما نسمّيه (المساحات الأوتوماتيكية)، تلك الآلة التي تعمل على إزالة قطرات المياه عن زجاج السيارة الأماميّ بشكل متقطّع. هي آلة يستحق وجودها الامتنان بالفعل، خصوصاً عند هطول الأمطار الحاجبة للرؤية. ولكن رغم معرفة الجميع بها تقريباً إلّا أنّ القليل منا يعرف أيّ ملحمة قضائية نتجت عن اختراع هذه الآلة. في عام 1970 تقدّم إلى محكمة ديترويت مهندس كهربائي يدعى (روبرت كيرنز) بدعوى قضائية يتّهم فيها شركة فورد بسرقة فكرة اختراع (المسّاحات الأوتوماتيكية) وقد أورد في تلك الدّعوى كيف أنّ مهندسي الشركة أقنعوه بإطلاعهم على عيّنة من اختراعه في سبيل الاتفاق معه على شرائه منه بعد أن يصنّعه بشكل مستقلّ، ولكنّ ما حصل هو أنّهم انسحبوا من اتفاقهم معه ليفاجأ بعد ذلك بأنّ سيّاراتهم المنتجة بعد أقل من عامين قد تضمنّت كلها اختراعه في سطو سافر على حقوقه ملكيّته الفكريّة!

لم تكن معركة كيرنز القضائية سهلة فشركة كبرى مثل فورد قادرة على استعمال ما شاءت من الحيل والمغالطات القانونية بواسطة جيشها من المحامين المحترفين، تلك الحيل التي إن لم تفلح في كسب القضيّة فهي تؤدي على الأقل إلى تطويل أمد القضية دون حسم إلى آجال غير معلومة مع عدم تأثر الشركة بعامل الزمن كما يتأثر خصمها البسيط متواضع الحال.

لم يكن كيرنز يمتلك عقلاً ذكيّا فحسب بل كان أيضا يمتلك (دماغ ناشفة) جداً، ذلك أنّ أحداً ممن كانوا حوله لم يؤيّده بالمضيّ في هذه القضية أبعد من اللازم. كما بدأ محيطه من المعارف المتعاطفين بالتساقط واحداً تلو الآخر مع طول أمد المطالبات التي يبدو أنّها لن تثمر أبداً. كانت زوجة كيرنز آخر المتساقطين، إذ تركته مع أطفالها ليستمر في خوض معركته وحيداً. لم يكن يملك أتعاب المحامين للترافع في قضيته، عدا أنّهم لم يكونوا ليقبلوا أصلاً بالترافع في قضية تحمل من علامات الفشل الشيء الكثير. قرّر كيرنز أن يدرس قوانين الملكية الفكرية بما في ذلك كل السابقات القضائية المماثلة لقضيّته، ليبدأ بعد ذلك في الترافع عن نفسه لمدّة تتجاوز العشرين عاماً حتّى انتصر أخيراً في عام 1991 بتعويض قدره عشرة ملايين دولار من شركة (فورد) تبعتها بعد أقلّ من عامين 20 مليون دولار من شركة كرايسلر التي أدينت هي الأخرى بالسطو على اختراعه، كما حصل وهو الأهم بالنسبة له كما يبدو على الحق التاريخي في نسبة اختراعه إليه.

من الجدير بالذكر الإشارة إلى أن محاولات عقد الصفقات التي تتضمّن تنازل كيرنز عن مطالباته لم تتوقّف منذ أن بدأ في رفع قضيّته وكانت تتضاعف عروضها مع كلّ تقدّم يحرزه حتى أنه تلقّى بعد مضي 7 سنوات على ابتداء مطالباته القانونية عرضاً بمليوني دولار مقابل التنازل عن براءة الاختراع ولكنه رفض ذلك بشدّة.

في المقابل فإن هذا الرجل العنيد لم يخسر وظيفته وأسرته فحسب أثناء معركته الطويلة، بل كانت على حساب صحته أيضاً حيث تعرّض إلى انهيار عصبيّ أقعده لفترة، قبل أن ينهض مجدداً ليستأنف حربه ضدّ الشركات الكبرى، كما أصيب بالزهايمر عام 1995 أي بعد مرور فترة يسيرة على انتصاره فقط، واتضح أن للأمر علاقة بمرض سرطان الدماغ الذي داهمه بعد ذلك إلى أن توفّي في أوائل عام 2005.

حسناً، هل من الممكن أن ننظر إلى هذه القصّة كقصّة نجاح كما حاول تصويرها الفيلم الأميركي (ومضة العبقرية) الذي قام فيه بأداء دور كيرنز الممثل (جريج كينر)؟

أمّ أنّ جميع ما حصل عليه بطل القصة لا يعوّضه عن حياة أجمل كان من الممكن أن يعيشها لو رضي بإحدى تلك الصفقات التي عرضت عليه والتي ما فتئ كل من حوله يلحّ عليه بقبولها؟

هناك عدّة زوايا للنظر في هذا الأمر، فلعلّ هناك من يجادل انطلاقاً من القيمة الأخلاقية التي كان يمثّلها كيرنز في هذا الموقف، كما أن هناك من قد ينظر انطلاقاً من أعجابه بجلادته وإصراره على بلوغ ما سار إليه من غاية دون النظر في العواقب. ولكن من جهة أخرى فإنّ ما تجشّمه الرجل من تكاليف أخلاقية لم يكن بالشيء الهيّن أيضاً إذا ما أخذنا بالاعتبار إهماله لأسرته وعمله مقابل ارتهانه الكامل لذلك الهدف الذي استحوذ على تفكيره ووقته تماماً.

كما أن النظر إلى الأمر بمنظور براجماتي قد تتباين حوله وجهات النظر عند مقارنة ما يعنيه عرض يتضمّن الحصول على مليوني دولار بما يعنيه الحصول على 30 مليونا ولكن بعد 15 عامٍا من ذلك العرض!

على الرغم من أن ملحمة هذا المخترع تعتبر في نظر خاسري الجولات الأولى (من أمثالي) قصّة كفاح، إلا أنه يصعب عليهم رؤيتها كقصّة نجاح بالقدر نفسه. فماذا عنك أنت عزيزي القارئ؟