خرج وسيم إلى عيادته الجديدة باكرا، حاملا حقيبته مبتهجا مفعما بالأمل والطموح في خطوته الجديدة في مسار حلمه بعد غياب ليال طويلة قضاها خارج الوطن، في رحلة علم في أرقى الجامعات الألمانية، عاد أخصائيا نفسيا مرموقا موهوبا لوطنه ومدينته، ركن سيارته أمام بوابة العيادة، ألقى التحية على سكرتيره وسأله، هل من مواعيد جديدة لهذا اليوم؟ أجابه بخجل وتبرير، كما لو أنه السبب وراء عدم الإقبال، قال وهو يلملم أسفه: نحتاج إلى وقت ليعرف الناس افتتاح العيادة، قال الدكتور وسيم: لا بأس أنت محقّ، دخل مكتبه وأخرج كتابا يقرؤه لتمضية الوقت، مرت الأيام بطيئة وحال العزوف عن زيارة عيادته مستمرّ بشكل لم يجد له مبررا، عدا أنها عيادة جديدة ولم تكتشف بعد، خرج إلى شقته مساء يحدث نفسه، أيعقل بأن كل أرواح أبناء مدينتي لا تشكو شيئا مع متغيرات الحياة المضطربة؟ أين النسب المتحدثة أن كثيرا يعانون اضطرابات نفسية تتفاوت أعراضها، تحسن حال عيادته بشكل خجول، أجبره لتقبّل الأمر حتى أيقظه صديق قديم حضر مباركا افتتاح عيادته الخاصة، ولتهنئته بعودته إلى الوطن، جلسا في مقهى بناصية العيادة، قال له صديقه بعد أن اشتكى الدكتور حالة الركود التي تمرّ بها عيادته، إنك كمن يبيع الثلج في آلاسكا المتجمدة! كن متأهبا فسآتي لأخذك في جولة على منازل في هامش المدينة، تضاهي مصحات التشيك عناية وجودة! قالها ساخرا ثم أكمل حديثه بإسهاب بعد أن أدار الملعقة في كوب الشاهي الورقي، وقال: تلك المنازل يصنّعون الوهم ويغزلونه أثوابا ويبيعونه خرافات وخزعبلات، أوقفه الدكتور وسيم واعتدل بجلسته، وقال: وما الرابط بين عيادتي ومن تتحدث عنهم؟ قال: يا عزيزي كل دراساتك وأبحاثك وغربتك اختزلوها بقارورة ماء منفوث فيها، وبكل أسف وأسى، تجارتهم تجد رواجا كاسحا، فالبسطاء يقودهم جهلهم إلى أولئك المخادعين، يبحثون عن خلاص لمشاكل نفسيّة قد لا يستغرق علاجها بعيادتك أكثر من جلستين، وبطريقة تحفظ للإنسان كرامته وخصوصيته، ذهل الدكتور وسيم من أحاديث صديقه، وكما لو أنه الآن خارج الزمان والمكان، وقال: إنك تبالغ، أنا غادرت وطني قبل سنوات وما تقوله يروى كأساطير تحارب العلوم والمعرفة، والآن نحن في القرن الحادي والعشرين، تتحدث كما لو أنها ظاهرة يا عزيزي، فقال له صديقه: أتعلم لو اختلطت في المجتمع أكثر وتوغّلت في أحاديثه ومجالسه، ستغلق عقلك، وقد أجدك مصطفا في أحد طوابيرهم بانتظار دورك بعد أن يوهموك بأنها عين طائشة قد أصابتك، ولكن إذا أردت أن تكمل دفع مصاريف عيادتك، أزل حرف الدال السابقة لاسمك ومارس النفث والقراءة، واكتب على عيادتك، "نعالج كل الأمراض بكل أنواعها والأمراض المستقبلية"، وأعدك بأنك ستحتاج إلى أكثر من سكرتير، وحجوزات المواعيد ستمتلئ لأشهر قادمة، وطوابير المراجعين قد تحتاج إلى سيارات المرور لتنظيمها، وستصبح ثريّا يا دكتور وسيم، قال الدكتور بإحباط لا يوصف: لا يا عزيزي، بل سأعود في أول رحلة من حيث أتيت، حتى يدرك مجتمعي، أن الطب النفسي هو أحد أجنحة الطب المعنية بسلامة الروح، وتوازن السلوك.