لقد فقدنا صلتنا بالحياة إلى درجة أننا لا نملك أحيانا إلا أن نشعر بالاشمئزاز من "الحياة الحقيقية"، ولهذا فإننا نغضب حين يذكرنا الناس بذلك. لماذا، بل إننا ذهبنا بعيدا جدا في هذا، وصرنا ننظر إلى "الحياة الحقيقية" باعتبارها عبئا ثقيلا، ونحن جميعا متفقون على أن "الحياة" كما نجدها في الكتب هي أفضل بكثير. ولماذا نحدث كل هذه الضجة في بعض الأحيان؟ لماذا نخدع أنفسنا؟ ماذا نريد؟ إننا أنفسنا لا نعرف ذلك أنه مبدأ دوستويفسكي الذي اضطر إلى مدح القيصر أملا بأن يسمح له بمزاولة مهنة الكتابة فكتب لنا الكثير عن علاقتنا بالحياة وعلاقتنا بالكتب والمسافة بين الحيوات التي يمكن للمرء عبورها أو المرور بها دون أن يلتفت إليها.
الكاتب الذي يمتد به الزمن حيا إلى ما بعد مائة عام وأكثر لتصلنا حكاياته وسرده وكأنها طازجة للتو، وكأنه يحاكي الواقع اليوم وإنسان اليوم. لا بد أن روائيا من ذلك النوع الذي شق في الصخر ينابيع ماء ووهب الحياة ومضى.
من لم يقرأ (الإخوة كارمازوف) وهي سفر حقيقي وعميق للغوص في الصراع الداخلي بين الخير والشر فقد فوت الكثير عليه، كما أن روايات دوستويفسكي وبتفرد عظيم تحوي فهما عميقا للنفس البشرية، كما تقدم تحليلا ثاقبا للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في ذلك الوقت، لكنه ظل قائما حتى اليوم، فهو الأدب الذي يقرأ الأزمنة في كل مراحلها وليس أدبا مرحليا أو وقتيا. ويمكن لوقفة عابرة أو تأمل طويل في روايته الجريمة والعقاب اكتشاف مدى عبقريته وقدرته على عبور الزمن وكأنه يقف اليوم بيننا مفسرا ومحللا ما أصاب الإنسانية في قلب وعيها وتحولاتها وخاصة مجتمعنا الإسلامي "الجريمة والعقاب" دفعت بالوعي البشري قبل مائة عام من اليوم لمحاولة فهم دوافع الجريمة عند الإنسان، ليس أي جريمة، بل الجريمة التي يكون دافعها المعتقدات والفكر عن أولئك البشر الذين يقتلون باسم الديانة والرب، مبررين جرائمهم بأنها مدعومة من الله، فشرعوا لأنفسهم بهذا الاعتقاد الحق الكامل، إما تغيير البشر ليكونوا نسخا منهم أو قتلهم وهي الفكرة ذاتها التي كانت محور تفكير بطل رواية الجريمة والعقاب "روديون رومانوفيتش"، حيث كان يملك كل المبررات التي تخول له قتل الآخر على طريقته.
إن الحياة التي يعيشها أبطال الكاتب بين دفتي الكتاب هم صور مجسدة وحقيقية للواقع الذي نحن عليه في العالم الحقيقي، ولهذا فإن الإرث العظيم من الروايات التي تركها لنا دوستويفسكي ما زالا حيا عبر كل الأبطال المجانين والقتلة والمخبولين وذوي المعتقدات المتطرفة وذوي المعتقدات الساذجة البسيطة، وأصحاب المبادئ والقيم والرحماء والقساة والمصلحون والمفسدون هم ذاتهم أبطال عالمنا الحقيقي الذي نعيشه تماما كما كانوا أبطال روايات دوستويفسكي منذ قرن مضى.