ابتداء أحيي (الوطن) على استقطاب قامة كبيرة في مقام الدكتور تركي الحمد الذي استمتعت بقراءة فاتحة كتاباته في هذه الصحيفة يوم الأحد الماضي (قالت الأعراب آمنا)، والتي تأتي امتدادا لهم الدكتور تركي وغيره من المفكرين العرب المشغولين والمشتغلين بالهموم العربية الكبرى، ولست مختلفا مع الدكتور حول وضع – الديمقراطية – في الوطن العربي فهي لا تعدو أن تكون حجابا يغطي ممارسات أسوأ من ممارسات الديكتاتورية المطلقة، لكنني أتمنى على الدكتور وغيره من المهمومين بهذا الوضع أن يبحثوا في جذور المشكلة لا فروعها، والديمقراطية العربية كسيحة أو عرجاء أو تمثيلية لم ولن تنتهي فصولها؛ ليست سوى فرع لجذر، فهي كما أظن في غير تربتها، وتربتها الطبيعية هي إنسان يعرف حقوقه وواجباته وتطلعاته قبل أن يمارس حقه في اختيار من يمثله أو يحكمه، وقد سبق أن رويت في هذه الزاوية منذ بضعة أشهر قصة معلمتنا –الويلزية– التي تكره الإنجليز واليهود وتعلن ذلك كل صباح، وحين جاءت الانتخابات البلدية في مدينتها – كارديف – صوتت لمرشح إنجليزي يهودي بل وجمعت له أكثر من ثلاثين صوتا مقدمة مصلحة مدينتها على مشاعرها وعواطفها الخاصة، والحملات الانتخابية هناك ليس فيها استدعاء لعصبيات قبلية أو مناطقية أو عرقية أو مذهبية أو...وإنما مصالح عامة تمس حياة الإنسان أيا كان لونه أو انتماؤه، فهل الإنسان في وطننا العربي كله مهيأ الآن لهذا المستوى من التطبيق الديمقراطي؟

إن الإنسان المهموم بمعيشته وما يحتاجه من خدمات مازالت ناقصة أو في طور التكوين - ابتداء بالمسكن الذي يعيش فيه ومرورا بخدمات الماء والكهرباء والطريق ووسيلة النقل والمدرسة والمستشفى وانتهاء بمستقبله المجهول بعد التقاعد أو العجز- ليس مهيأ للتفكير – مجرد التفكير – في شؤون كبرى مثل الشأن الديمقراطي فضلا عن كون هذا الإنسان عاش ويعيش في أجواء كرست في داخله مسلمات الخنوع المطلق.

إنني أعرف أن هناك من يقول إن الديمقراطية هي المفتاح السحري لحل كل هذه المشكلات التنموية التي أشرت إليها، وقد يكون ذلك صحيحا في عالم الغرب المتقدم اليوم، لكنني أتحدث عن التربة التي أنتجت ديمقراطيتهم، والتربة التي أنتجت أشكالا من الديمقراطية المشوهة في عالمنا العربي. لقد كان جذر ديمقراطيتهم فكريا نبت في تربتهم فكانت الثورة التي جاءت لتكريس حقوق الإنسان، أما جذر ما نسميه ديمقراطية في عالمنا العربي فكان عسكريا سلطويا، فنشأت الثورات التي أسقطت صورا من الظلم لتستبدله بما هو أنكى وأظلم، تحت شعارات براقة أبرزها شعار الديمقراطية المزورة، ولأنها مزورة في أصل منشئها عند العرب، فقد كان طبيعيا أن تأتي تطبيقاتها مزورة غير مقنعة لأحد، والسبب واضح، فمن قاموا بتلك الثورات العسكرية هم نبت ذات التربة العربية التي لم تتهيأ فكريا بعد، ولهذا أفضل التركيز على حقوق الإنسان الأساسية والحياتية قبل القفز إلى أشكال الحكم التي نفترض أنه ينبغي تطبيقها، والتي من أجل ضمان نجاحها لابد أن تكون من نفس التربة والفكر العربيين، لا مستوردة ولا مستنسخة من الشرق أو الغرب، وهذا ما أظن أنه على مفكرينا العرب التركيز عليه ومناقشته والتمهيد له، فالتربة الفكرية هي الجذر الذي يجب تهيئته لشجرة المستقبل الخضراء، إن أردنا لها نشأة سليمة قوية متوازنة، لا تجرفها رياح التقليد ولا عواصف الثورات، ولا يوقف نموها طموحات القفز على حواجز الواقع.