جيزان في أجمل طقسها منذ دخول الشتاء، لمستها الأمطار فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فهي اليوم مشتى البلاد، تعج بالحركة والصخب نهارا، كما هي قبل الحرب ومع الحرب، وفي نهايات الأسابيع لا تنام، يسهر الناس فيها على أحزمة القرى وشواطئ البحر، لكني أحب السهر مع من تيسر من أصحابي في مزرعة أجتهد في إنشائها ببطء في خبت قريتنا على بعد 30 كلم شمال منفذ الطوال الحدودي مع اليمن. بعض الليالي أسهر وحدي تحت السماء وزينتها، أغلق الهاتف لأكون إحدى مفردات الليل، مغمورا بجلال الهدوء وطمأنينة السكينة، أحيانا أتعسعس بضوء الفانوس لأوقد نارا أتأنّق في طبخ الشاهي عليها ليكتمل المعنى، ريثما يغلي أتفقد حظيرة الغنم، قنّ الدجاج، الشجرة المتسلقة التي زرعتها قبل شهر أين وصلت أوراقها، الوردة في جوار العريشة هل فتحت أم ما زالت مغمضة، هل خبأت الكاذية الفتيّة عذقا لأفاجئ به أمي صباحا، أستخبر ردائم الفل إن كانت قادرة على إكرامي بعقد فلّ مكتمل أهديه لسيدتي مساء غدٍ.

أحيانا أسمع صوت مروحيات عسكرية تجوب سماءنا، من جبهة الحرب وإليها، طول الليل، بعضها يكون قريبا ومنخفضا للدرجة التي أتوقع أنهم لو نظروا للأسفل لشاهدوني مأخوذا بلحظتي، منتظما في نغم الوجود.

لا أعرف ما أحاديث أهل الطائرة حين يمرّون فوق عريشتي، ولا أعرف أسماءهم، ولا أعرف كيف مزاجهم حينها، لكني أشعر برغبة لو أنهم هبطوا مرة ليشربوا معي الشاي، لو مرة يهبطون لنتقاسم كرم الليل، لو مرة واحدة يهبطون لأقبل رؤوسهم وأياديهم، وأعانق فيهم الشهداء والرفاق وعطر البيرق.

لست وحدي من يبيت يتعسعس على مزرعته وأطفاله وقريته، جيزان كلها تفعل كل ليلة، ليست جيزان وحدها، بل كل بلادنا، من عاصفة الحزم إلى رعد الشمال.

نعم، نحن نعيش حقبة جيدة، للمرة الأولى نرى أنفسنا هكذا، نفرد أجنحتنا بعيدا، نقاتل على مختلف الجبهات العسكرية والسياسية، البعيدة والقريبة، نسفح من دمنا الزاكي على حدودنا الشريفة، نودع أبطالا ونستقبل أبطالا.

قطرة الدم التي سقت تربة في الشمال أو في الجنوب هي أمانة الشهداء عندنا، وعند أجيالنا لنحفظ هذا الوطن. ليس لنا سواه وليس له سوانا، ممتلئين ثقة بالله، نعرف غايتنا، جاهزين بأنفسنا وقدراتنا، عازمين على أخذ مستقبلنا بقوة العقل واليد. لا نكره أحدا لكن لن نقبل أن يهدد مستقبلنا أحد، كائنا من كان، ولا نقبل أن يفتّ أحد في تلاحمنا كائنا من كان. الشعوب لا تصنعها إلا الشدائد ولا تؤرخ لنفسها إلا بالتضحيات.

لا أحد يريد الحروب، الحروب ليست ترفا لكنها أحيانا ضرورة، ونحن نخوضها جميعا، جنودنا في ميادين المعارك ونحن خلفهم جبهة واحدة، وقولا واحدا.

أبطالنا على الأرض وفي السماء لم يقدموا أرواحهم، فقط، فداء لنا ومن أجلنا، بل قدموا لنا أيضا دموع أمهاتهم وزوجاتهم وأبنائهم، لنبقى نحن مطمئنين سعداء مع أقاربنا ومع أبنائنا الآمنين في أعمالهم ومدارسهم.

حين يصطف طلابنا في مدارسهم كل صباح لينشدوا نشيدنا الوطني فإن بينهم أطفالا تخنقهم دمعة اليتم وفقد آبائهم الذين استشهدوا ليكمل زملاؤهم النشيد في زهو وفرح.

وحين تعجّ صالات الأفراح بالنساء فهناك نساء غيبهن الثكل، لتبقى أفراح البلاد عامرة كل ليلة. استغنوا عن أرواحهم وآمالهم فداء لأرواحنا وآمالنا ليمنحونا الحياة المطمئنة لنحقق آمالنا في وطن حر كريم.

لا شيء كالوطن؛ قبل الحرب، ومعها وبعدها، قد نختلف على أي شيء إلا على الوطن، الاختلاف على الوطن خيانة، خيانة للوطن وللقيادة وللمواطنين، خيانة للشهداء الأبطال ودعاء الأمهات ودموع اليتامى.

لولا هؤلاء الأبطال ما كان أحدنا ليسهر مطمئنا في انتظار إشراقة الكادي ليفاجئ به أمّه وعقد فل مكتمل يهديه غدا لحبيبته.

ليتهم يهبطون مرة فأقبل رؤوسهم وأياديهم.

تعظيم سلام لأبطالنا على الأرض وفي السماء.

تعظيم سلام.