تحدثنا عن كتاب د. عبدالحميد أبو سليمان (أزمة الفكر المسلم) وعرفنا أن مصادر الفكر والمنهجية الإسلامية، هي الوحي والعقل والكون. فالرؤية الإسلامية القويمة تتكامل فيها هذه العناصر، وأدركنا أنه لا مجال ليصبح الوحي في الرؤية الإسلامية السوية تعطيلا للعقل وتشكيلا له في أنماط وصور تاريخية وتحويله إلى سياط من التخويف والإرهاب وإلى قيود من الأوامر والتجريمات والتحريمات التي لا تتعلق بأحوال الناس ومجريات حياتهم.

إن المنطلقات الأساسية للمنهجية الإسلامية والفكر الإسلامي، تكمن في: الوحدانية، الخلافة (خلافة الإنسان في الأرض، وهي خلافة رعاية وإعمار وإدارة وتسخير)، المسؤولية الأخلاقية، ومن المفاهيم الأساسية التي تستند إليها هذه المنهجية: غاية الخلق والوجود. موضوعية الحقيقة ونسبية الموقع منها. حرية القرار والإرادة (من حرية العقيدة والفكر والأداء الاجتماعي. كلية التوكل. السببية في أداء الفعل الإنساني).

إن منهجية الفكر الإسلامي تتميز بشمولية المجال وشمولية الوسيلة، فهي توجه نشاط الإنسان المسلم والعقل المسلم في وجوه إصلاح الحياة كافة، وتنظيم أدائها ورعايتها وتطوير طاقاتها وإمكاناتها على ما تقتضيه غاية الحياة ووجود الإنسان والكائنات نوعا وكمّاً، فما من وسيلة صالحة من وسائل البحث العلمي وطلب المعرفة إلا والعقل المسلم تكفل باستخدامها والإفادة منها في توليد المعرفة والقدرة على الأداء.

وقد تحدث الدكتور عبدالحميد أبو سليمان في كتابه (أزمة العقل المسلم) عن المنهج الإسلامي ومتطلبات بناء علوم الحضارة الإسلامية من حيث تصنيف النصوص الإسلامية تبويبا وتنقية وتبسيطا. وشمولية الرؤية الحضارية لأنه الفهم الذي يمكن به الانتقاء والاستفادة العلمية والفنية الصحيحة دون مساس بالقيم والعقائد والمبادئ. ومقدمات علوم اجتماعية في مجالين، النوع الأول مقدمات عامة تتعلق بالمبادئ العامة للإسلام ومقاصده الرئيسية في الحياة والأنظمة الإنسانية. أما النوع الثاني من المقدمات فهو في مجال العمل.. العلم.. الحياة.. في كل مجالات المعرفة والعلوم الاجتماعية وغير الاجتماعية.

وأوضح أن هذه المقدمات تدور حول القضايا الثلاث التالية: أبعاد الوجود الإنساني الإسلامي (وحدة كلية وتعدد متكامل)، الغاية والقصد في نظام الكون والحياة، موضوعية الحق والحقيقة في طبائع النفوس والعلاقات الاجتماعية الإنسانية.

وقد أفرد فصلا للتحدث في مقدمات العلوم الاجتماعية من إسلامية وعلم التربية، فهناك تغييب للدراسات المنهجية العلمية في ميدان العلوم السلوكية، وبالتالي البشرية وطبائعها وكيفية تكوينها ومراحل تطورها التي لا تقل أهمية عن مراحل تطور الجسد ونموه، إن لم تكن أكثر دقة وتعقيدا وأشد حاجة للدراسة والفهم والرعاية والبناء والتقويم. وكذلك إسلامية علم السياسة، وهو يدور حول دراسة الظاهرة السياسية وأولويات الأمة وكلياتها ومؤسساتها العامة، والأساليب التي يتم بها اختيار القيادات السياسية وإرساء النظم والقوانين والتشريعات وإدارة أجهزتها وتوجيه طاقاتها وإمكاناتها.

وهنا يجب التفريق بين حرف منظومة الوحي وبين اجتهادات الدراسات الأكاديمية، فالوحي هو ما أنزله الله من كتاب وما بلغه الرسول، أما التشريع الحركي السياسي والاجتماعي فهو النظر في الدين من قبل قيادات الأمة وموقفها من مسؤولية العمل والممارسة، وأخذها بخطة تلتزم بغايات ومقاصد الدين.

ويأتي ثالثا الإسلامية وعلوم التقنية، فهو يدعو إلى إصلاح الإطار الفكري العقدي الذي يقدم هذه المادة العلمية، حيث إن كثيرا من مدارس العالم الإسلامي لا تزال تدرس تلك العلوم في إطار فكري ينبع من رؤية تلك الأمم والحضارات، مما يؤدي إلى عجز في الأداء الحضاري وتشوهات في البناء النفسي والفكري، فيقول الكاتب "إن الإسلامية تعني في الجوهر سلامة التوجه وسلامة الغاية وسلامة الفلسفة التي تتوخاها أبحاث تلك العلوم واهتماماتها وتطبيقاتها وإبداعاتها، فيصبح العلم الإسلامي علما إصلاحيا إعماريا توحيديا أخلاقيا راشدا".

وتحدث عن الإسلام والمستقبل وأهمية دور هذا الجيل في الإعداد للمستقبل وتهيئة المنطلقات السليمة وتركيز الجهود لتحقيق أمور ثلاثة: توفير الطاقة للبناء والحماية من الاستنزاف، توليد الفكر والمفاهيم والمعرفة والرؤية الإسلامية الصحيحة، توجيه الطاقة لترجمة الفكر والمفاهيم والرؤية الإسلامية تربيةً للناشئة وبناء نفسيا قويا سويّا مؤثرا. وأكد على دور المؤسسات العلمية الإسلامية، فهي التي يناط بها إعداد الساحة وتأهيل أبناء الأمة وإعداد الكوادر والطاقات. ومن المهام التي يجب أن تقوم بها المؤسسات العلمية الإسلامية: تحقيق وتصنيف وتكشيف نصوص الوحي من القرآن والسنة، تحقيق وتصنيف الجيد من أمهات التراث الإسلامي، تجنيد العلماء الأكفاء وتفريغهم، التوعية العامة بإسلامية المعرفة، توجيه الدراسات والحديث إلى الموضوعات التي تخدم إسلامية المعرفة. ثم تحدث عن مستقبل المسيرة الإنسانية.. فالإنسانية اليوم تتمزق مجتمعاتها وتتسابق للدمار، والإنسانية اليوم في أشد الحاجة إلى مفاهيم الإسلام التي تجيب عن جوانب الضعف في كيانها القائم.

وجماع هذه المفاهيم يتلخص في أمرين: الأول: الإسلام يقيم مجتمعا يبنى على أساس الوحدة مقابل الصراع، ومن هنا فإن عالم الإسلام هو عالم الحلقات المتداخلة (والأمن الجماعي هو فلسفة الغد التي لا سبيل سواها لتحقيق الأمن والسلام الصحيح لعالم الغد). أما الثاني: فهو أن المعرفة الإسلامية توظف وفي وقت واحد مصادر المعرفة العقلية التجريبية الاستقرائية إلى جانب مصادر الهداية الكلية الربانية (الجمع بين القراءتين مقابل قراءة البعد الواحد).

وأنهى الكاتب بالتأكيد على أن الإسلام هو قضية الأمة، وأن الغاية من البحث هو وصف حال الأمة في صورته الكلية، وتأصيل النظر الكلي في الفكر المسلم، ودفع المسلم للنظر الجذري الأصيل في قضايا تخلف الأمة وتدهورها ومعرفة السبب ووصف العلاج. ووصل إلى أن الأمة لا تنقصها الإمكانات ولا القيم، إنما منهج الفكر السليم، والعلة تكمن في خلل الفكر واختلال الرؤية الاجتماعية والحضارية وفساد التربية الإسلامية وانهيار المؤسسات العامة.

ودعا مفكري الأمة وعلماءها ومثقفيها أن يركزوا عزمهم أولا على إصلاح الفكر وتجلية الرؤية أمام أبناء الأمة ورجالاتها وقاداتها للانطلاق نحو آفاق التقدم والارتقاء.

ومن خلال قراءتي لكتاب (أزمة العقل المسلم) فإنني أرى أن الكاتب قد وفق في استخدام مصطلح (الأصالة الإسلامية المعاصرة)، فهذه الأصالة هي منطلق الحل. فالأصالة: تؤكد أهمية وجود ثوابت.. نهج سماوي.. وحي.. أصول الدين وروح الدين. أما كلمة المعاصرة: فتؤكد أهمية اعتبار المتغيرات نتيجة تغير الزمان والمكان والحال: وتؤكد أهمية إعمال العقل. والتمايز المؤسسي، وكلها من صلب الفهم الصحيح للدين من قبل عقل مسلم متحرر سليم. فالأولى (الأصالة) دون الثانية تؤدي إلى تبلد وجمود وتأخر وتخلف، وأما الثانية (المعاصرة) دون الأولى، فإنها تؤدي إلى (لا مرجعية)، (لا ثوابت)، (لا نهج سماويا)، (لا وحي): تؤدي إلى انحراف وعلمانية شاملة.

وإنني أرى أن هذا الكتاب يستحق أن يدرس في الجامعات الإسلامية، فمنهج الكتاب هو البحث والدارسة بنظرة شمولية منضبطة، يعود بها الكاتب إلى بداية التاريخ الإسلامي لدراسة الأحداث التي أسهمت في تكوين عقلية المسلم الحالية، وبعد التشخيص يقدم الحل بالإسلامية الشاملة التي لن تتحقق بدون تحرير العقل الإسلامي من جديد وإخراجه من أزمته وتطبيق مفهوم الأصالة الإسلامية المعاصرة.