قبل نحو 7 سنوات، وقبل استكمال تعبيد الطريق بين الجوف وحائل، كان أحد أبنائي ومعه أحد أصدقائه، متجهَين من الجوف إلى الرياض براً، عن طريق حائل، وبينما هما في الطريق فقدا الاتجاه الصحيح، ثم تطور الوضع إلى ما هو أسوأ، ففي أثناء محاولتهما الوصول إلى مخرج من متاهتهما في الصحراء، نفد الوقود من السيارة، كان هذا في الليل، وكان عليهما أن يمضيا ليلة قلقة في سيارتهما في انتظار ضوء النهار، لعله يحمل لهما أملا جديدا، وفي الصباح بقي زميل ولدي عند السيارة، وذهب ولدي على أمل أن يعثر على شخص ينقذهم في الجوار، وبينما هو هائم على وجهه في الصحراء، إذ بسيارة دفع رباعي، تقف بجانبه، تطلع في وجه سائقها فوجد سيدة بكامل سترها ووقارها، قالت السيدة "وش عندك يا ولد؟". قص ولدي على السيدة ما وقع لهما وأعلمها عن ضياعهما في الصحراء، فما كان منها إلا أن اصطحبته في السيارة، وذهبت به إلى محطة وقود كانت قريبة، اشتريا منها وقودا ثم عادت به إلى صديقه، ودلتهما على الطريق، وأكملا طريقهما حتى عادا بسلام.

ورغم أني تحدثت عن امرأة تقود سيارة في بلادنا إلا أني على يقين من أن أحداً لم ير في الأمر غرابة، وأن كثيرين نظروا إلى المرأة نظرة إكبار واعتزاز، مع أنها هي نفسها المرأة السعودية التي نتهيب من قيادتها السيارة، وننظر إليها نظرة شك وريبة وخوف لا تليق بمجتمع تربى على صحيح الدين وعلى قائمة طويلة قلّ أن تجد مجتمعا تربى عليها من التقاليد والمثل والقيم، مجتمع تربى على النخوة والرجولة وحماية العرض وخدمة المرأة والقيام عليها، نعم هناك شذاذ عن هذه القاعدة، لكن في المقابل ليس شرطا أن نكون في مجتمع من الملائكة حتى نمنح أخواتنا وأمهاتنا وبناتنا حقهن الطبيعي في القيام على شؤونهن إذا دعت الحاجة إلى ذلك في بلد لم تعد تليق به هذه النظرة المنعزلة.

وفوق هذه الحيثيات هناك مضار، أصبحت تحتم علينا أن نعجل بقرار السماح لمن تشاء وتحتاج إلى ذلك من النساء بقيادة سيارتها وفق ما تراه الجهات المسؤولة، وأعني هنا المرور والجهات الأمنية، من ضمانات وضوابط تجربة قيادة آمنة للمرأة، أخص من هذه المضار على سبيل المثال لا الحصر موجة الانكماش الاقتصادي التي تضرب العالم هذه السنوات والتي لا يرى خبراء الاقتصاد أفقا قريبا لانتهائها.

وينعكس هذا الانكماش والتراجع الاقتصادي العالمي على نحو متفاقم في مجتمع كالمجتمع السعودي، فحسب إحصاءات وزارة العمل، قبل نحو سنتين -ما يعني أن هذه الأرقام التي سنسردها مرشحة للزيادة- هناك على الأقل مليون أسرة سعودية تعتمد على السائق الأجنبي. والسؤال: كم تتكبد الأسرة السعودية في سبيل الحصول على سائق؟ مع الأخذ في الحسبان أنه عند التقديم لوزارة العمل يدفع المواطن ألفي ريال، بالإضافة إلى 18 ألف ريال يطلبها مكتب الاستقدام، و600 ريال من أجل استخراج إقامة لهذا السائق، وأربع وعشرين ألف ريال راتبا سنويا. بالله عليكم انظروا كم يدفع المواطن حتى يحصل على سائق في السنة الواحدة، ولنضرب هذا الرقم في مليون، حتى نعلم كمّ المليارات التي ينزفها جيب المواطن من أجل الحصول على سائق. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه: أليس الأولى أن تبقى هذه المليارات داخل البلد، تعزز سيولتها النقدية، وتنعش جيب المواطن وتخفف من ضغوط الحياة وأعبائها عليه، لا سيما في هذا الظرف الاقتصادي العالمي الضاغط الذي نشارك شعوب العالم آثاره الخانقة؟ ثم إن هناك عائلات غير قادرة أصلا على الحصول على سائق نظرا لتدني أوضاعها الاقتصادية، في وقت تجد نفسها فيه مطالبة بتوفير سكن ملائم، واحتياجات معيشية كثيرة تحاصرها بدوامة من الالتزامات لا آخر لها، فلا ينقصها ترف السائق الخاص الذي أصبح نوعا من البذخ لم تعد أوضاعنا تتحمله، وتقليدا اجتماعيا بائسا عند بعضنا مع الأسف، يدفع في خط أداء استهلاكي عام لا يناسب مجتمعا يتطلع إلى مشاركة العالم سلوك إنفاقه المعتدل القائم على الاقتصاد لا البذخ والإسراف اللذين ينهانا ديننا عنهما أصلا، تماما كما ينهانا عن مشاهد الاختلاط التي لا ينكرها إلا ذو هوى في نفسه بين السائقين وبناتنا وأطفالنا مع اختلاف دياناتهم وثقافاتهم. ولن أتحدث هنا في غير فني لكنني سأدع لأهل الفتوى أن يفتونا: هل يجوز من الناحية الدينية والأخلاقية أن يختلي سائق أجنبي في سيارة ببناتنا؟ أليست قيادة المرأة أفضل ألف مرة وأكرم وأعف من ذلك؟

وفوق ما تقدم فلقد أصبحت هناك معاناة حقيقية تقع على قطاع كبير من المجتمع غير قادر على نفقات السائق، فأصبح على الآباء والإخوة عناء توصيل الأمهات والزوجات والأخوات والبنات، وكثير من هؤلاء الرجال مشغولون أصلا وظروفهم لا تسمح، ما يضعنا أمام وضع خانق في ظل حاجة نصف المجتمع إلى من يحمله جيئة وذهابا طوال الوقت، من دون مبرر مقنع؛ الأمر الذي يجعل أملنا كبيرا في مرورنا أن يضع نهاية لهذه المعاناة، بوضع منظومة يتوافر عليها رجاله الذين نثق بقدرتهم على تأمين الوضع تماما وفق ضوابط يضعونها ويلتزم بها الجميع؛ فالحاجة إلى قيادة المرأة سيارتها أصبحت ملحة، ولتكن أسوتنا في ذلك موقفا لا أنساه لأمير منطقة الجوف في السبعينات الميلادية المغفور له عبدالرحمن بن أحمد السديري، وكان رجلا حكيما يقيس الأمور بتروٍّ قبل إصدار أي حكم من الأحكام، بالإضافة إلى تواضعه -رحمه الله- وقربه من الناس ومعرفته بعاداتهم وتقاليدهم. كان يعيش على أطراف المدينة آنذاك بعض أهل البادية، بعضهم ليس لديهم أبناء ذكور، فكانت بناتهم يقمن بقيادة شاحناتهم لجلب ما تحتاج إليه الأسر من احتياجات من المدينة -ولا يزال بنات بادية الشمال حتى الآن يقدن سياراتهن-، فلما زادت قيادة الشاحنات من قبل بنات البادية تدخل المرور وتم إيقافهن، فما كان من أهاليهن إلا أن ذهبوا يشتكون إلى أمير المنطقة حالهم، وأنهم ليس لديهم أبناء ليقودوا شاحناتهم، لذا تقود البنات، عندها قال لهم كلمته التي يذكرها الناس حتى اليوم، رحمه الله: "إذن لا بأس لكن لا تدعوا بناتكم يقدن الشاحنات داخل شوارع المدينة"، وحل المشكلة وخفف عن الناس، فلماذا لا نخفف نحن أيضا عن الناس؟ سؤال أتركه لضمائرنا جميعا.