ما زلت أدين لأبي في كل ما قدمه لي، لا يمكن لي أن أتجاهل تلك الثقافة الشخصية التي تجرعتها منه، وأنا أرافقه حتى هذه اللحظة التي أصبح فيها عاجزاً عن إعادة تركيب الجمل الاسمية والخبرية كما يجب، أخذني أنيس منصور في طفولتي إلى عالم المدن في 200 يوم، وأخذني أبي إلى العالم الحقيقي، إلى حيث تعلمت الفرق بين حمام بريدة وأكثر الأفاعي فتكاً بالإنسان في المملكة، وأذكر أنه أخبرني آسفاً بأن مجمل الأفاعي في السعودية وشبه الجزيرة العربية، تقتل بشكل مباشر عند مُشاهدتها خوفاً منها، على الرغم من أنها غير سامة، وذلك برغم أن الكثير من هذه الأفاعي مُدرجة ضمن قائمة الأفاعي المُهددة بالانقراض.

عالم الحيوانات والمدن عالم غريب جداً، مفعم بالدهشة والريبة والتساؤلات أيضاً، ويشرع أمامك أبواباً حديدية لم تكن لتتخيل يوماً بأنك تملك القدرة على أن تردفها حتى! هل قرأت رواية "حياة باي" تلك التي تحولت إلى فيلم سينمائي مدهش ثلاثي الأبعاد، وحقق 4 جوائز أوسكار في 2013، إذا لم تقرأ الرواية فأنا أرشحها لك، لا عليك ربما الترجمة لن تشعرك بمذاق حقيقة الرواية قبل أن تتغير بعض الأفكار، فالمترجم لا بد أن يشعر بأن عليه أن يعيد كتابة الرواية من جديد، وحينما ينتهي منها يفكر جدياً بحذف اسم الكاتب الحقيقي وإضافة اسمه فقط، فهو يشعر بأنه من أعاد الحياة إلى الرواية المترجمة بطريقته الخاصة.

أحببت كثيراً ما كتبه أحد النقاد عن الفيلم قائلاً: قصة الفيلم المقتبسة عن رواية الكاتب بان مارتل، يكون قد دخل دائرة التحدي الفني، والسردي الكبير، رواية لم يكن لأحد أن يتوقع أن تتحول إلى فيلم سينمائي، رواية تنحى منحى فلسفيا، يحاول الاقتراب من دائرة الجدل الكبير والموجود منذ نشوء الخليقة، الإيمان، الإلحاد، وهو ما يبدأ به الفيلم منذ ربعه الأول، حيث الصبي الهندي الذكي الذي يحاول أن يجد ضالته في دين يركن ويطمئن إليه، فكان قراره أن كل الأديان يمكن أن تحقق ذلك، لذلك فهو يتعبد في الكنيسة، ويؤدي صلاة المسلمين في البيت، ويستمع إلى عضة أمه التي تعلمه تعاليم الدين الهندوسي، والآلهة فشنو، "الإله الحافظ في الديانة الهندوسية"، وبذلك يتحقق له الاطمئنان الذي يريد، وهو الذي يعاني من اسمه "piscine" الذي يعني "مرحاضا"، ويتعرض للسخرية بسببه، فيختزله إلى "pi".

حينما قرأت الرواية تذكرت أبي الذي كان يشاهد معي دائماً عالم الحيوان على شاشة التلفزيون، كنا نستمتع سوياً بمشاهدة العراكات التي تدور بين الحيوانات المفترسة والأليفة، وكرهت دوماً ملك الغابة الأسد وصديقه النمر، حيث كانا ينقضان بشهية كبيرة على الحيوانات التي طالما أحببتها من قصص الطفولة، الزرافة ذات الرقبة الطويلة، والحمار المخطط بالأبيض والأسود، الغزلان الطيبة التي تدرك تماماً براءتها وسذاجتها، الجميع كانوا يملكون الموهبة والقدرة على المقاومة، مقاومة أن يصبحوا لحماً شهياً للأسد الأحمق والنمر "المفتري"!

العوالم حولنا لا تنقضي، بل تزداد شراسة وعدواناً وغباءً، ولهذا عدلت الوسادة وأنا أشاهد بمفردي الفيلم السردي المهلهل "حكاية حسن"، حماستي زادت بعد أن شاهدت غضب المجتمع السعودي على جرأة قناة العربية الإخبارية على عرضه بعد يوم واحد فقط من إعلان حكومة المملكة قطع المساعدات إلى لبنان، لا أتابع القناة باستمرار، وليست لدّي الرغبة والحماسة لمشاهدة التلفزيون، تنقضي نهارات عدة دون أن أحرك "الريموت كنترول" من على الكنبة البيضاء، الأمر ليس بالمهم، لا أحتاج إلى معرفة ما يحدث من خلال الشاشة، أعتمد على قراءة الأخبار عبر الإنترنت وتصفح الصحف الورقية التي تصل إلى مكتبي، وكنت أظن أن ذلك يكفي، حتى استيقظت على غضب الجمهور من الفيلم الذي لم أجد فيه ما يغضب، لم أفهم حتى الآن السبب الحقيقي الذي جعل العديد من المتابعين لقناة العربية تنفلت مشاعرهم بهذه السخونة، أن تنسكب أسى وحزناً وقسوة على الذات، منذ أن تم عرض الفيلم عن الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله، حتى وصل إلى الحد بالمطالبة بإقالة رئيس القناة، شاهدت الفيلم بعد تلك الموجه الغاضبة والصاخبة، وربما أكثر ما كنت أرتجيه من الدقائق الثانية والعشرين، الرغبة العارمة بأن أعيش ذات الغضب الذي عايشه المجتمع السعودي، ورفضه رفضاً قاطعاً، ولم يجدوا إلا وسائل التواصل الاجتماعي لبث خيبتهم في القناة، لكنني للأسف لم أجد لي دوراً أو مكانة بين صفوف المعزين لقناة العربية، لم أجد ما يمكن لي أن أرفضه أو حتى أتفق معه، أحببت أكثر حكايات أبي عن الحيوانات، وعلى الأخص حينما كان يتحدث عن الإبل، فقد كان جده مالكاً لها، وهو يشعر بامتنان كبير إلى هذا الحيوان الذي كان لهُ الفضل بعد الله في إطعامه وسقياه.

ما زلت مقتنعة تماماً بالفكرة التي أحملها في ذهني، أن بعض إخوتنا الشيعة في الدول المجاورة يحلمون دوماً بوجود بطل، أي بطل في حياتهم، يقنعهم بأنه يمكنه أن يجعل من أميركا -التي يسافرون للدراسة أو العمل فيها- تركع أمامهم.. لا بد أن يكون في حياتهم صورة لبطل ينتمون إليه، ويجيد قص الحكايات والروايات العاطفية كما يجب!