تتسارع في هذه الأيام وتيرة الصراع في سورية، بين جميع أطراف النزاع فيها وحولها؛ نتيجة التقدم السريع لقوات الأسد، المدعومة بحلفائها على الأرض، وضربات السوخوي المهلكة من السماء. بعد فشل المفاوضات في جنيف وغيرها من عواصم أوروبا جميع المراقبين أخذوا ينظرون إلى التقدم على الأرض كمفتاح لحسم الصراع في سورية. 5 سنوات والصراع بين مكونات النزاع الداخلية السورية والخارجية على سورية تراوح مكانها، حيث تحولت الحرب بينهم إلى حرب تحصينات وقلاع، وفي أقل تقدير قضم بطيء ومنهك لجيش النظام على الأرض، وصمود مضنٍ ومكلف للمعارضات المسلحة للنظام.

عندما أيقنت القيادة الروسية أن الحسم العسكري على الأرض السورية طال وكاد يتعذر على حلفائها، وبأن الوقت قد يمضي لغير صالحهم، قررت التدخل العسكري المباشر لمساندتهم، ولو عن طريق الضربات الجوية الدقيقة والقاصمة، لمعاقل وتحصينات خصوم النظام. وهذا كما اتضح لاحقا، كان معدًّا له من قبل القوات الروسية والجيش السوري وحلفائه على الأرض، قبل حوالي 6 أشهر من التدخل الروسي الفعلي في الحرب السورية. وعادة لا تتدخل قوة عظمى، وتورط نفسها في صراع بعيد عن حدودها إلا عندما يثبت لها بأن الطرف الذي تنوي مساعدته أو القتال معه قد أثبت أنه جدير بذلك، وأن له أملاً في النصر، أو على الأقل الصمود وتفادي الهزيمة.

الحرب امتدت لـ5 سنوات متواصلة، أرهقت أعصاب كل من تابعها ناهيك عمن تورط فيها، وخرج كثير منهم عن طوعه المعهود، من التروي والحكمة والاقتصار بالتصريحات غير المباشرة. وعقدت مؤتمرات عدة في كل من الجامعة العربية وهيئة الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، وغيرها من منظمات إقليمية ودولية، تبارز فيها داعمي هذا الطرف في النزاع السوري أو ذاك، وكالوا الاتهامات لبعض وبكل عنف وضراوة. ودخل الإعلام في هذا النزاع، حرب كسر عظم لم يشهد لها الإعلام في العالم مثيلا، حتى أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية.

قتل في هذه الحرب الدامية، عشرات ثم مئات الآلاف من الشعب السوري المنكوب، وأصبحت أعداد جثثهم الطاهرة وصورها الممزقة، أرقاما تردد في المحافل الدولية من أجل إدانة هذا الطرف في الحرب أو ذاك؛ لا من أجل حقن دماء من لم يمت بعد من الشعب السوري. كما شرد وهجر الملايين من السوريين بسبب تحول منازلهم وليس مدنهم فقط، إلى حلبات صراع مصالح دولية وإقليمية، عابثة، لا تبقي ولا تذر. وأصبح المهجرون السوريون كذلك لعبة ابتزاز عند هذا الطرف أو ذاك، ومحاولة تسجيل أهداف ديبلوماسية وحتى اقتصادية، على حساب مصير المهجرين من بيوتهم، ظلما وعدوانا.

ولا أحد حتى الآن يعلم كم حقيقة ما صرف على هذه الحرب التي تحولت إلى نزف وإبادة للشعب السوري المكلوم، ولكن الجميع يعرف ماذا ستصرف بعدها من ثروات طائلة على إعادة بناء ما هدمته الحرب من المدن السورية وبناها التحتية والفوقية. وهكذا تم صرف كثير من الثروات والأموال والسلاح والعتاد والرجال، وكل طرف لا يريد أن يذهب استثماره على هذه الحرب سرابا، وعليه تحولت إلى حرب كسر جماجم وليست كسر عظم فقط!

السؤال هو: لماذا دخلت الحرب في سورية إلى stalemate، مأزق عسكري؟ صعب على أي طرف من الأطراف المتحاربة حسمه بالسرعة المطلوبة، والذي أدى إلى التدخل الروسي المباشر، بعد 5 سنوات مضنية لإنهاء الحرب لصالح حليفه النظام. وذلك لأسباب جوهرية من ناحية طريقة إدارة الحرب، لا تدل على عدم احترافية وتمكن. أولها أن حرب العصابات متحركة والحرب في سورية تحولت إلى ثابتة، هذا من ناحية أزمة الفصائل العسكرية المعارضة للنظام. أما أزمة النظام نفسه، فعدم سيطرته على حدوده، مما أدى إلى إيجاد معابر آمنة لدخول أسلحة ومسلحين وتمويل من الشمال عن طريق تركيا، ومن الجنوب عن طريق الأردن، وكذلك من الشرق عن طريق العراق، مما استنزف كثيرا من جهد جيش النظام، وأخذ يفت في عضده مع الوقت. وهذا جعل الأطراف الخارجية تتصارع داخل سورية، ليس بالطريقة المباشرة، ولكن عن طريق وكلاء لها، تجندهم وتدربهم وتمولهم من داخل وخارج سورية. وعليه كان على روسيا إغلاق المعابر وحصار وتثبيت القطاعات المسلحة داخل خنادقها، ومنعها من الحركة والقدرة على المناورة، ولو عن طريق القصف الدقيق والمتواصل.

منذ بداية الحرب ارتكبت المعارضة المسلحة، سواء المعتدلة أو المتشددة، أو حتى الإرهابية منها، خطأ استراتيجيا، وذلك باعتمادها على التمسك بالأرض وتحصين نفسها فيها، مما حرمها من حرية المناورة والالتفافات الجانبية والتسلل داخل ميادين سيطرة الجيش النظامي، وضربه والهرب من أمامه بسرعة، أي حرم نفسه من عمليات الكر والفر، "اضرب واهرب"، والتي هي عماد تكتيك حرب العصابات ضد الجيوش النظامية. وذلك لعدة أسباب جوهرية، منها أن التنظيمات العسكرية المقاتلة للجيش النظامي غير موحدة، ناهيك عن كونها لا تتبع لقيادة واحدة. والأشنع أن كلّاً منها يتبع طرفا داخليا أو خارجيا لا يتلقى منه فقط التمويل والتموين، ولكن حتى الأوامر. وكل طرف من الأطراف الخارجية أو حتى الداخلية له أجندته الخاصة، التي قد تكون مضادة لأجندات التنظيمات الأخرى. لذا كان التمسك بالأرض من قبل الفصائل المسلحة، من أجل إثبات نفسها كمقاتل رئيسي في الحرب، وعليه تضمن الدعم الخارجي لها.

داعش فقط، هو الذي اعتمد على تكتيك حرب العصابات أكثر من غيره من الفصائل والتنظيمات العسكرية، حيث أخذ يتحرك ويناور عبر عدة خطوط طويلة وداخل مساحات شاسعة. وذلك على ما يبدو كونه التنظيم الوحيد الذي أخذ يعتمد على نفسه من ناحية التمويل والتسليح. ولذلك تمدد وفرض نفوذه، على مساحة أكبر بكثير من باقي الفصائل.

وكما ذكرت أن جيش النظام، أخذ يستخدم تكتيك حرب العصابات أكثر من التنظيمات المسلحة التي أخذت تعتمد على الثبات على الأرض وتحصين نفسها، وعليه تهدر طاقتها في محاولة تأمين خطوط تموينها التي أخذت تتقطع تحت هجمات الجيش النظامي وحلفائه. في العرف العسكري إذا حاصرت قوة عسكرية وحشرتها في منطقة، ومنعتها من الحركة، فأنت قمت بتعطيلها وحولتها إلى كومة من السلاح والرجال الجوعى. وكلما وسعت من دائرة حصارك لها، وقطعت الإمدادات عنها، حولتها إلى معسكر اعتقال إرادي. جيش النظام حول قطاعاته الميليشياوية الشبه عسكرية إلى أدوات حصار، وحركت الجيش المحترف لقطع طرق الإمدادات وقضم الأرض، بالتدريج ولو بالبطيء.

حرص النظام السوري على عدم تشتيت قواه وتمسك بالمدن والمناطق الحضرية، وركزت الميليشيات المقاتلة له على مسك الأرياف والقرى. صحيح أن الأرياف تمثل مناطق صالحة لحرب العصابات وإنهاك الجيوش النظامية، ولكنها مفتوحة وغير آمنة، خاصة في ظل تمسك الميليشيات المقاتلة بالأرض، على حساب المناورة واستنزاف الجيش النظامي. بعكس المدن الحضرية الكبيرة، القادرة على تمويل نفسها والجيوش المدافعة عنها، خاصة تلك التي تمتلك مطارات وموانئ مفتوحة تربطها بالعالم.

وعليه فعلى المعارضة السياسية السورية اقتناص الفرصة، والقبول بعملية وقف إطلاق النار؛ والتحلي بالعقلانية في مطالبها، قبل أن تذهب كل تضحياتها سدى.