أصدرت اللجنة الدائمة للإفتاء فتوى برقم (24937) وتاريخ 23/11/1431هـ تقضي بأنه "لا يجوز للمرأة المسلمة أن تعمل في مكان فيه اختلاط بالرجال، والواجب البعد عن مجامع الرجال والبحث عن عمل مباح لا يعرضها لفتنة ولا للافتتان بها، وما ذكر في (الاستفتاء) يعرضها للفتنة ويفتتن بها الرجال فهو عمل محرم شرعاً وتوظيف الشركات لها في مثل هذه الأعمال تعاون معها على المحرم فهو محرم أيضا".
وكانت هذه الفتوى جوابا عن استفتاء وجِّه إلى سماحة المفتي العام للمملكة الذي وجهه للجنة عن عمل بعض النساء السعوديات "محاسبات" في بعض الأسواق.
ولم تذكر اللجنة الموقرة اسم المستفتي؛ لكن نص الاستفتاء يوحي بأنه ربما صاغه أحد "المتحمسين" الذين دأبوا على "استدراج" علمائنا بصياغة استفتاءاتهم بطرق لا تدع للمفتي سبيلا إلا أن يتبنى وجهة نظر المستفتي. و"الاستدراج" واضح في صياغة الاستفتاء كما أوردتْه اللجنة؛ فقد صيغ بطريقة تحكم بتساهل النساء اللاتي وظفتهن بعض الشركات ليعملن "محاسبات": فهن "يخالطن" الرجال، ويحادثنهم، ويتماسسن معهم في حاليْ تسلمهن للمشتريات من المشترين وتسليمها لهم، ويتدربن مع الرجال، ويدربهن رجال، ويتعاملن مع رؤسائهن وزملائهن من الرجال.
وكان المنتظر ألا تؤدي صياغة الاستفتاء بهذه الطريقة غير البريئة إلى وقوع اللجنة الموقرة في حبائلها. فكان يجب عليها أن تتأكد من صحة توصيف المستفتي للواقع المستفتى عنه. إذ ربما لو اطلع الأعضاء الموقرون على الوضع كما هو لكانت فتواهم مختلفة، ولأجازوا أن تعمل المرأة في ذلك العمل حين يتأكدون أن الوضع لا ينطوي على المحاذير التي أوحى بها المستفتي.
لهذا كان على اللجنة الموقرة ألا تأخذ ما جاء به المستفتي في استفتائه أمرا مسلَّما، وكان ينبغي أن ترسل من تثق به ليتأكد مما يجري فعلا في تلك الأسواق. وكان المتوقع، من حيث المبدأ، أن تقدم اللجنة حسن الظن بأصحاب تلك المتاجر، وبالمشترين منها، وبالنساء اللاتي يعملن فيها. بل ربما كان عليها أن تؤنب المستفتي على جرأته في تصوير الواقع على غير ما هو عليه وتعظه، هو نفسه، بأن يتحلى بحسن الظن بالمسلمين.
والواضح أن الزمن الفاصل بين تاريخ تحويل سماحة المفتي للاستفتاء إلى اللجنة وتاريخ إصدارها للفتوى كان قصيرا، إذ لم يزد على خمسة أيام _ كان يومان منها إجازة أسبوعية، وهي مدة لا تكفي لأن تتأكد اللجنة من الواقع الذي دعا المستفتي لطلب الفتوى، خاصة أن ذلك الواقع موجود في جدة والمنطقة الشرقية، بعيدا عن مقر إقامة أعضاء اللجنة.
فهناك، إذن، ثلاث ملحوظات على الفتوى: عدم ذكر اسم المستفتي الذي ربما كان باعثُه على طلب الفتوى غرضا إيديولوجيّا، وصياغة الاستفتاء بطريقة "استدراجية" معروفة كان من نتائجها إصدار بعض الفتاوى المتشددة في السنوات القليلة الماضية، وقصر الزمن الفاصل بين تاريخ الاستفتاء وتاريخ الفتوى مما يوحي بعدم استقصاء اللجنة الموقرة للواقع الذي جاءت هذه الفتوى لبيان الحكم فيه.
أما الواقع فهو أن أولئك الموظفات يعملن في أسواق مفتوحة لا يمكن فيها أن ينفرد الرجل بالمرأة، والغالب أن المتسوقين فيها هم أفراد الأسرة جميعا، بل الأغلب الأعم أن تكون المرأة هي المتسوق الرئيس. وتراقَب تلك الأسواق بـ"كاميرات" ترصد المتسوقين خشية السرقة أو التخريب. ويشمل ذلك مراقبة من تسول له نفسه التعدي على النساء، سواء تلك التي تعمل في موقع مهم مثل محاسبة الزبائن، أو غيرها. يضاف إلى ذلك أن ملاك هذه الأسواق يخشون من فشل تجربة توظيف المرأة فيها بسبب التخوف من اتهامها بوجود بعض المحاذير التي أشار إليها المستفتي المتحيِّز. ومن المؤكد أن هذا سيجعلهم أكثر حرصا على اتخاذ أقوى الاحتياطات لمنع ما يمكن أن يؤثر على نجاح التجربة.
وربما كان المتوقع أن تشجع اللجنة الموقرة توفير فرص العمل للمرأة بصورة عامة، حتى في مثل هذا العمل إذا اتخذت الاحتياطات اللازمة، وذلك كي لا تقع فريسة للفراغ الذي يمكن أن يقودها إلى ما يخشى منه المتشكِّكون. ويتمثل ذلك في أن بعضهن يمكن ـ نتيجة للفراغ ـ أن تقضي وقتها في التلهي بوسائل الاتصال الحديثة مما يحتمل أن يوقعها ضحية للمتلصصين والمبتزين. كما كان يمكن للجنة أن ترى في تمكين بعض النساء من العمل، حتى في مثل هذه الأعمال، إعفافا لهن، وصونا لكرامتهن، عن سؤال أقربائهن مساعدتهن ماديا، خاصة أن كثيرا من الأقرباء ربما يكونون غير قادرين على مساعدة قريباتهم ماديا لأنهم، هم أنفسهم، بحاجة للمساعدة.
والخشية أن تكون هذه الفتوى نابعة من الموقف التقليدي من المرأة التي ينظر إليها دائما على أنها سبب محتمل للخطيئة. ومن الأمثلة على هذا الموقف ما كتبه الشيخ عبد الله المنيع بعنوان "حديث ذو شجون" (الرياض، 11/11/1431هـ)، وعرضته الزميلة الأستاذة حصة آل الشيخ (الوطن، 22/11/1431هـ). فقد روى الشيخ الفاضل عددا من الاتصالات التي تشكو فيها بعض النساء من التصرفات الغريبة التي يرتكبها أزواجهن، ومن تلك الشكاوى المؤلمة التي روتها إحداهن للشيخ أنها عادت من عملها في أحد الأيام مبكرة عن الوقت المعتاد فوجدت زوجها في فراشها مع الخادمة. وقد أخذ الشيخ المنيع تلك الشكوى على أنها حقيقة وبنى نصيحته للمرأة المتصلة على ذلك. هذا مع أن الشكوى ربما لا تكون حقيقية، إذ ربما اختلقتها إحدى "المحتسِبات" لتستدرج الشيخ إلى تحذير النساء وتخويفهن من العمل خارج المنزل.
وكان المتوقع، إن كانت قصة المرأة المتصلة صحيحة، أن يقف الشيخ في صفها وينصحها باللجوء إلى القضاء ليلقى ذلك الزوج الخاطئ جزاء انتهاكه حرمة زوجه وحرمة فراشها وارتكابه جريمة كبرى توجب عقابا شرعيا. لكن رد الشيخ صوَّرها بأنها هي المخطئة.
واللافت في فتوى اللجنة الموقرة وصيَّتُها للنساء بترك تلك الأعمال والتوكل على الله. وهذه وصية طيبة، لكن كثيرا من الشباب تركوا وظائفهم، في سنوات ماضية، بسبب قبولهم لمثل هذه النصيحة وظلوا عاطلين عن العمل سنين طويلة، وصاروا عالة على أقربائهم.
وتمثل هذه الفتوى تراجعا واضحا عن فتوى سابقة صادرة قبل أربعة عقود عن رئاسة الإفتاء تجيز للمرأة البيع والشراء في الأسواق. وربما يشير هذا التراجع إلى أثر "الصحوة" التي أدت إلى مزيد من التشدد الفقهي.
إن قيام المؤسسة الرسمية للافتاء بالمهمات الكبرى التي أوكلها إليها خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ توجب عليها أن تبني فتاواها على الواقع، وتقدم حسن الظن بالمسلمين، وألا تكون ضحية لبعض "المحتسبين" الذين لا يتورعون عن تزييف الواقع لها إرضاء لنزعاتهم المتشددة. بل ربما كان أول واجباتها ـ في مجتمعنا خاصة ـ أن تحمي النساء اللاتي يسعين لإعفاف أنفسهن بالعمل الشريف من تسلط الفتاوى المتشددة التي عانين منها كثيرا في العقود الماضية القريبة.