لا يكفي من القاضي التخلق بالأخلاق الفاضلة، بل يلزمه التحلي بأسمى الأخلاق، وإلا فإنه سيكون سببا في إهانة القضاء حتما؛ فالناس لا يرون القاضي إلا مثالا، وهكذا ينبغي أن يفعلوا؛ لأنه يجب أن يكون كما يظنون.

ولو مسحنا تعامل القاضي مع الخصوم والمراجعين في المحاكم لظهر لنا العجب؛ فكثير من القضاة اليوم ليسوا كما ينبغي من مثلهم، من حيث سعة الصدر ولطف العبارة والصبر على انفعالات الماثلين أمامهم.

هناك بعض المسببات لتلك الإثارة يتحجج بها بعضهم؛ مثل: ضغط العمل، التواء الخصوم، قلة المعاونين، ضعف الإعداد للمتاح من المعاونين، انعدام سبل التقدير للمتميزين من القضاة، في سلسلة من الأعذار التي لا تُسوِّغ للقاضي نَزَقَه وصلفه.

وهذه نماذج مؤلمة تكون في القضاء كما تكون في غيره من الوظائف العامة:

أحد الزملاء ممن ترك القضاء قبل عقدين من الزمان حاول ولوج عالم المحاماة، فصدم مما رأى من زملاء الأمس، بل إنه بهت من قاض كان بالأمس القريب ملازما له يتدرب على يديه يعلمه وينميه، فلما قال قافية هجاه كما قال الشاعر.

زميل آخر حضر لديه محام من أكابر القضاة السابقين وأحد أساتذة ذلك الزميل في مراحل دراسته، ومع أن المحامي هذا كان وقورا وكبير السن جدا إلا أنه لم يسلم من صرخات القاضي التلميذ سابقا في وجه أستاذه؛ لأنه قال له مذكرا: الحكم موجود في كتاب كذا صفحة كذا.

فاعتبر القاضي ذلك إهانة له وتعريضا بجهله، فصب عليه من التأنيب والتقريع ما لا يليق بمثله من مثله.

وفي المقابل: بالأمس في مدينة الزرقاء بمملكة الأردن ضرب معلم وقور طالبا مدللا، فأقام والد الطالب دعوى ضد الأستاذ في المحكمة، ولما مثلوا أمام القاضي الذي قرأ الدعوى والجواب قبل الجلسة، ما كان من القاضي النبيل إلا أن قام من مقعده ونزل إلى مكان الأستاذ وصافحه وقبل يده وهو يبكي، وختم بذلك التصرف الرائع القضية.

لقد قام القاضي لمعلمه الأول تقديرا وإجلالا له، ومنبها الطالب ووالده إلى حق الأستاذ الذي يجب أن يعطاه، وأن ما يفعله الأستاذ بطالبه ليس انتقاما ولا عداوة، بل تحفيز بالقدر الذي يناسب تخاذل الطالب وتكاسله.

فرق بين القاضيين الأولين والقاضي مسك الختام في الأمثلة الثلاثة السالفة من حيث الوفاء والتبجيل للمعلم، والأمثلة كثيرة ومعبرة والمقام لا يتسع.

من النماذج المؤلمة:

أحد زملاء العمل له زوجتان، واشتهر لدى المراجعين والموظفين بأن سماحة القاضي تتجلى صبيحة الليلة التي يبيت فيها عند إحداهما.

وزميل آخر دخل على مسؤوله يطلب حاجة ميؤوسا من تلبيتها، ففاجأه المسؤول بقوله: حظك زين، نفسيتي اليوم حلوة. ثم قضى حاجته.

وزميل آخر له ابن مشاغب وكثير المشاكل يحوجه إلى مراجعة الشرطة بين الحين والآخر، أصيب القاضي بالسكري بسبب تلك المعاناة مع هذه الأحداث المحرجة، فكان تعامله مع المراجعين مقيدا بدرجة تأزمه مع أحداث ابنه.

هذه الأمثلة الثلاثة تبين مدى تأثر القاضي بعلاقاته الاجتماعية وقدرتها على تحديد سلوكه في عمله.

ومن النماذج المؤلمة أيضا:

زميل يحيط به عدد من أجهزة الحاسوب المحمول، ولها وظائف عدة نتائجها لها تأثير كبير في سلوكه مع مراجعيه ومعاونيه.

وزميل آخر لا ينفك عن استقبال معارفه في مكتبه، وقد يحوجه ذلك إلى ترك المكتب القضائي والاختلاء في المختصر لتحقيق مزيد من الخصوصية في الجلسة وتبادل الأحاديث؛ فيؤثر ذلك على مسار القضايا لديه، ويعجل برفع الجلسات لأسباب منها ضيق الوقت الذي ما كان ليضيق لولا الالتزام بممارسة العلاقات الخاصة في المكاتب العامة.

زميل ثالث لا يقدر على النوم إلا متأخرا، فيأتي إلى دوامه قبيل الظهر، ويلزم مراجعيه بالتأخر معه حتى بعد صلاة العصر.

هذه النماذج الأليمة وغيرها مما يدور بين الناس، خصوصا المحامين حول طرق تعامل القضاة معهم لا حل له إلا بالآتي:

1/ الاهتمام بالإعداد النفسي والتهيئة السلوكية في مقررات الدراسة منذ الابتدائية وحتى الجامعة؛ حتى لا ينقطع المدد الأخلاقي الفائق عن الطالب فيحل محله سلوك الشارع.

2/ العناية بالانتقاء والاختيار للقضاة من بين الخريجين ممن يتحلون بصحة نفسية رائدة، وتربية صالحة، وتفوق علمي ظاهر، وتميز فكري بديع.

3/ التركيز على التدريب المكثف في فترة الملازمة، واختيار المدربين الأكفاء، والإلزام بالدورات التدريبية لجميع القضاة كل بحسبه.

4/ اعتماد المتابعة والتوجيه بدلا عن التفتيش والمراقبة؛ لتصيد الأخطاء، أو بقصد الاستعراض على القضاة أمام زملائهم ورؤسائهم ومراجعيهم، ومحاسبة من يسيء إلى القاضي بصورة علنية من المفتشين.

5/ إخضاع القضاة في درجات التقاضي الثلاث، وكذا المفتشين الحاليين لتدقيق أعمالهم، وتقييمهم، ومن ثم تقويم من يحتاج منهم.

6/ إعطاء المجلس الأعلى للقضاء المرونة الكاملة لمحاسبة القضاة، ومجازاتهم بما لا يخالف النظام، وتمكين المتضررين من تلك القرارات من الاعتراض عليها لدى القضاء الإداري؛ أسوة بسائر القرارات الإدارية المماثلة، وتعديل ما يحتاج من الأنظمة للتعديل بناء على ذلك.

وفي المقابل لتلك النماذج المسيئة أسوق أمثلة مشرفة للقضاء والقضاة السعوديين:

المثال الأول/ أحد القضاة تعرض لحادث منتصف الليل على طريق عام، ومكث حتى الفجر في إجراءات إسعاف مرافقيه، ولم يمنعه ذلك من مباشرة عمله في الساعة الثامنة من صباح ذلك اليوم.

المثال الثاني/ كثير من القضاة امتنعوا عن أخذ إجازاتهم العادية والاضطرارية سنين عدة؛ بسبب ما يجدون في أنفسهم جراء تكالب القضايا عليهم يوما بعد آخر.

المثال الثالث/ قضاة دأبوا على الحضور والانصراف في مواعيدهما النظامية؛ ولو لم يكن لدى أحدهم ارتباط مسبق؛ احتياطا للظروف الطارئة التي تحوج بعض المراجعين للمراجعة في أوقات متأخرة.

أحيي هؤلاء النماذج النبيلة من القضاة الفضلاء، وأهمس في آذان النماذج السابقة بقولي: اتقوا الله، واعلموا أن ما تثلمون به حصون القضاء بتصرفاتكم غير المسؤولة أشد مما يلحق بمراجعيكم من الأذى. فاتقوا الله.