(سرقوا أصابعنا وعطر حروفنا .. فبأي شيئ يكتب الكتاب)


أود أن أشكر في بداية هذا المقال عضو مجلس الشورى الأستاذ محمد الرحيلي، لأنه أعادني لرائعة نزار قباني (أنا يا صديقة متعب بعروبتي) والتي منها البيت أعلاه، كما أثار في ذهني تساؤلاً قديماً جديداً عن أنسب وقت تُمنَحُ فيه الشعوبُ حقها في الانتخاب، فلا أكتمكم أني لم أستطع الوصول إلى حكم قاطع حول أفضل طريقة لاختيار أعضاء مجلس الشورى، ولا أدري فيما إذا كان الأفضل أن يكون المجلس منتخباً بشكل كامل أو جزئي، أو يكون معيناً بشكل كلي كما هو حاصل الآن، فما إن أتبنى رأياً حول هذا الموضوع حتى أتجاوزه إلى غيره مع تبدل الأحداث وزيادة المعلومات، فأنا من ناحية أؤمن أن العمل الديموقراطي عموماً لا يمكن الوصول إليه دفعة واحدة، وأن الانتخابات ثقافة تُكتَسب بالممارسة الفعلية والتكرار إلى أن تصبح عادة، وتصحح نفسها بنفسها إلى أن تصل حداً يصل به الأكفاء أكثر من غيرهم.

ومن ناحية أخرى أعتقد أن المشكلة دوماً تكمن في مراحل الانتخابات الأولى، والخشية من أن تُستغَل من قبل جماعات متطرفة لا تؤمن أصلاً بمشروعية الديموقراطية، فتتخذها وسيلة من أجل الوثوب على السلطة، وتدخلها من باب الضرورات التي تبيح المحظورات بهدف الوصول إلى أماكن صنع القرار وتشريع القوانين المكرِّسة لكل ما هو ضدها، من أجل محاربتها من الداخل وفرض سيطرة الجماعة ووصايتها على المجتمع، خاصة جماعات الإسلام السياسي، تلك الجماعات التي لا تصل لكفاءتها ولا لبرامجها أو وعودها، بقدر ما أنها الأحزاب الوحيدة المنظمة، في بلد يخلو تماماً من النقابات والأحزاب، كما أنها تصور للناس أنها آتية بوعد إلهي، يترتب عليه فلاحهم في الدنيا والآخرة، وتتمترس خلف شعارات دينية تعد بها الناخبين. عندما يختارون أهل الدين والصلاح، دون أدنى اعتبار لنتائج هذا الاختيار في هذه الدنيا الزائلة!، كما تحذرهم من المصير الذي ينتظرهم في الآخرة حين ينتخبون أشخاصاً لا يتمتعون بمعايير الإيمان التي هم يحددونها، حتى لو كانت تلك المعايير لا تأتي إلا بجماعات من طراز البغدادي وحسن نصر الله، وإنه من خلال متابعة بسيطة ورصد لما يجري في وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن ملاحظة أن لا صوت يعلو على صوت جماعة (مع الخيل يا شقرا) أو جماعة (أحب الصالحين)، كما يمكنك الحصول على تصور مبدئي لما سيكون عليه الحال فيما لو كان المجلس منتخباً بشكل كامل، ومن سيصل في النهاية إلى أماكن صنع القرار، ثم لك أن تتخيل مبلغ تأثير هذه الجماعات على وعي المجتمع وتقدمه ودينه الصحيح فيما لو كُتِبَ لها الوصول إلى مكان أعلى!

ولذلك حين يسيطر المتشددون على المشهد وتكون الأدلجة على أشدها، يكون من المخاطرة أن يُترَك مصير الوطن بيد الدهماء والغوغاء، وسيتم استغلال الأغلبية الطيبة من البسطاء الذين دأبوا على تقدير الأشياء بظواهرها، ولعل خير شاهد على ذلك هو سيطرة جماعات متطرفة في الدول العربية التي ضربها إعصار التغيير قبل خمس سنوات، وما آلت إليه الأحوال بعد ذلك من الخراب والدمار والجهل والتخلف وانعدام الأمن، عندما صودرت خيارات الناس بالفتاوى والمواعظ المتشددة، ومن لم يُروَّض بهذه الطريقة تم ترويضه بالقوة والتصفية بغطاء الشريعة والدين!، فالذين أفتوا بجواز المظاهرات والاحتشاد في الميادين ضد أحد الرؤساء، هم أنفسهم من أفتوا بجواز أن تُقطَع أيدي وأرجل ذات الجماهير حين خرجت تهتف ضد الرئيس الجديد المرشح من قبل الجماعة بدعوى الإفساد في الأرض!.

بشكل عام لا يُشترَط في المجتمع أن يكون مثقفاً ليُمنَح حقه في الانتخاب، بل قد تصلح الانتخابات في مجتمعات جاهلة أو قبلية، لكنها لا تصلح في مجتمعات تشيع فيها الأدلجة، ما لم تُسبَق بقوانين صارمة ومبادئ ثابتة لا تتغير، بسبب أن الجاهل يمكن التأثير عليه وإقناعه، كما أن فكره سيتطور مع الوقت، حين يكتشف أن اختياره لغير المؤهلين سيُضِرُ بمصلحته الشخصية قبل أي شيء آخر، أما المؤدلج فمصلحة الحزب عنده مقدمة على مصلحته الشخصية، وعقله يعمل لاعتبارات أخروية خالصة، وهو على أتم الاستعداد لأن يضحي بنفسه في سبيل جماعته وحزبه، بعد أن يكون قد حصل من مشايخه ومنظريه على وعد حاسم بدخول الجنة!

فهناك من بعتقد أنهم وحدهم من يملكون مكافأة الإنسان بعد موته، أما بقية الأحزاب فمهما كان ولاء الإنسان لها وإيمانه راسخاً بمبادئها، فإنه سيكفر بها وسيلعنها حين لا تلبي مطالبه، ولسان حاله يقول: "إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر".

ومع هذه الضبابية في الرؤية، سأختار لنفسي مبدئياً أن أقف في منتصف المسافة بين الطرفين، وسأميل إلى تفضيل أن يكون نصف المجلس منتخباً، لسببين؛ أولهما، أننا حين نخيِّر الشعب بين الحرمان من حقه في الانتخاب، وبين حكم المتطرفين، إنما نضعه بين حجري رحى، وثانيهما، أن العلة التي نخشاها من وصول أشخاص غير أكفاء إلى المجلس ربما تكون متحققة حالياً بوجود أعضاء من هذا النوع، إضافة إلى أن من سيأتي عن طريق الانتخاب مهما بلغ به الحال فمن المستبعد أن يكون في مقدمة أولوياته مناقشة نبات الأراك وأشجار السمر، وتحديد مسببات فقس بيض الحبارى، ولا أظنه سيصفق بحرارة لعضوٍ في المجلس لمجرد أنه هاجم كتّاباً وطالب بحجب مقالاتهم، كما حصل مع أخينا الرحيلي في الأسبوع الفائت، عندما وصم الصحفيين والكتاب بـ"محرضي الخارج ومستدعي الشماتة للبلاد" في محاولة فاشلة منه لاستعداء الرأي العام عليهم، ولصرف الأنظار بعيداً عن الحقيقة التي يُشعَر بخطرها، في دلالة واضحة على أن التهريج ليس له حدود!.