تقول الباحثة في فلسفة الضيافة Judith Still "الضيافة بالتعريف عبارة عن بناء اجتماعي ينظّم العلاقة بين الداخل والخارج وبهذا المعنى فهو ينظم العلاقة بين المجال العام والمجال الخاص".

بهذا المعنى فإن حضور الضيافة في المجال العام ليس أمرا غريبا أو جديدا، فالضيافة كانت دائما تعمل في الحدود والخطوط الفاصلة لتفتح داخلها أبوابا للتواصل. ذكرنا سابقا أن الضيافة حالة خاصة من الكرم مرتبطة تحديدا بمشاركة المكان. سبق أن ذكرت أن التغييرات الكبيرة في الحياة المعاصرة جعلت المجال العام المجال الذي يقصده الناس لقضاء حاجاتهم. العصر المؤسساتي الذي نعيشه جعل لقاء صاحب الحاجة وصاحب القدرة على تلبية هذه الحاجة غالبا في سياق مؤسسات عامة. السؤال الذي توقفنا عنده هو إذا كان المجال العام مبني أساسا، بسبب طبيعته السياسية، على فكرة التعاقد الاجتماعي وما ينتج عنها من حقوق، فما هي الحاجة للضيافة؟ بمعنى أن صاحب الحاجة إذا ذهب إلى المؤسسة العمومية فهو يبحث عن حقه ويتوقع من الموظف الذي يحصل على راتبه من المال العام أن يقوم بعمله الذي حدده القانون ولا يبحث عن عطاء وكرم خاص. بهذا المعنى تبدو الصورة وكأننا لسنا بحاجة للضيافة في حال توافر وتطبيق نظام يحفظ للناس حقوقهم ويحدد بعدالة طبيعة العلاقات بين الأفراد في المؤسسات.

الآن سأحاول الاعتراض على الصورة السابقة والمحاجّة بأن الضيافة ضرورية في المجال العام للسببين التاليين: أولا الضيافة هي أساس العلاقة الحقوقية، وثانيا أننا فعلا نحتاج ما وراء الحقوق في المجال العام. وسأحاول توضيح النقطتين السابقتين.

الضيافة لها مكان مؤسس في المجال العام لأنها تمثل الأساس الأخلاقي للتعاقد الاجتماعي. التعاقد الاجتماعي وما ينتج عنه من السلم الاجتماعي والقوانين ومنظومات الحقوق قائمة على الثقة بين المتعاقدين. نلاحظ هنا أننا أمام خيارين: التعاقد أو الغلبة، الرضى أو الجبر. التعاقد قائم على التراضي والثقة بين الأطراف. هذه الثقة لا يمكن أن تتحقق بدون أخلاق الضيافة، أي بدون بعد الوجود من أجل الآخر. الضيافة هنا هي المقابل للاحتراب ومحاولة القضاء على الآخر. الضيافة بهذا تعتبر بناء اجتماعيا للحفاظ على الآخر وتعزيز وجوده. الأخلاق هنا هي العلاقة بين الأفراد، بينما السياسة هي العلاقة بين الأفراد والمؤسسات أو العلاقة بين الأفراد في المؤسسات. الأخلاق بهذا المعنى أولية على السياسة لأنها هي العلاقة الضرورية لتشكيل البناء السياسي والحقوقي.

التصور الآخر للمجال الحقوقي يطرح الصورة التالية: المجال العام بما فيه من منظومات سياسية حقوقية قائم على فكرة الصراع والغلبة ولا تستقر الأمور إلا بإحداث توازن قوى يضمن عدم غلبة طرف على الآخر. هذه الصورة تصف جزءا من الواقع بالتأكيد، لكنها تصف الجانب الذي قامت المؤسسات أصلا لمقاومته والتخفيف من سيطرته على المجتمع. نعلم تماما أن المجتمعات تحمل في داخلها أسباب تفككها من عنصريات وتطرف وطمع وأنانية، ولذا تعمل المؤسسات على تخفيف ضغط هذه العوامل وتعزيز قيم التعاون والمشاركة والثقة في التعاقد الاجتماعي. الضيافة هنا تؤسس الجانب الذي يجمع الناس ويعزز تواصلهم. كما يقول لافيناز "الصداقة والضيافة هما جوهر اللغة". اللغة مثلها مثل كل أسس العلاقات الاجتماعية قائمة على هذا الإدراك العميق بوجود الآخر وبالمسؤولية تجاه هذا الآخر. بهذا المعنى الضيافة هي الموقف الأساسي الذي يجعل الحقوق ممكنة في المجتمع.

النقطة الثانية وراء أهمية الضيافة في المجال العام أننا فعلا نحتاج إلى ما وراء التحديدات القانونية في المجال العام. كل من تواصل مع حاجات الناس في المجال العام يعلم أن النظام مهما كانت دقته لا يمكن أن يشمل كل المواقف والظروف التي يمر بها البشر. لهذا السبب تتطور القوانين مع الوقت في عملية لن تنتهي إلا مع نهاية البشر. الضيافة هي الروح أو النافذة التي تسمح بهذا التطوير المستمر. الفكرة هنا ناتجة عن تصور مضياف للإنسان يرفض قولبته. القانون بطبيعته يقوم على تعريف أطراف العلاقة ولكننا نعلم أن الإنسان يتجاوز كل التعريفات. الضيافة هنا تدخل بعدا إنسانيا في التعامل بين الناس في المؤسسات العامة. هذا الفرق يمكن ملاحظته بالتفريق بين تعامل الفرد مع الإنسان ومع الآلة. مثلا آلة الصراف مريحة وسريعة ما دام الذي يتعامل معها يمتلك المواصفات التي تعرفها الآلة: بطاقة صراف ورقم سري ومال في الحساب. الضيافة تتدخل إذا حصل عطب في هذه المواصفات. الآلة لن تتعامل مع الإنسان خارج تعريفاتها. الآلة تحتاج إلى تطوير مستمر لن ينتهي تدفعه روح مضيافة للاستجابة لحاجات الآخرين. مراجعو الإدارات الحكومية يعرفون أثر التعامل الطيب من الموظفين حتى لو لم يتم إنجاز الحاجة الأساسية. نخرج أحيانا بذاكرة جميلة، بترحيبة أو ابتسامة أو مشهد حنون من الموظف قد يساوي عندنا الشيء الكثير. في أحيان كثيرة نطالب الموظف بأن "يستمع لنا". الاستماع ضيافة. المستمع يفتح لنا باب ذاته لنوصل إليه ما نريد. الاستماع إعلان للتخلي عن السيطرة على ما يدخل في أذنه. هو يفعل كما يفعل المضياف حين يفتح بابه معلنا أنه لم يعد يملك حق منع أحد من الدخول.

بهذا المعنى يكون للضيافة مكانا مؤسسا للمجال العام، بما فيه من منظومات حقوقية وتعاقدية وروح دافعة لهذا المجال للترحيب بكل تنوعات الناس واختلاف حاجاتهم.