لا خلاف بين عربيين على أهمية مصر ودورها القديم الجديد على جميع المسارات ذات الشأن بالوجود العربي، سواء لاعتبار دور مصر المركزي في التاريخ العربي الحديث، ومساندتها لكثير من الشعوب العربية في ثوراتها لنيل استقلالها، أو باعتبار ثقل مصر العسكري والحربي الذي كانت تمثله منذ مطلع التاريخ الحديث وحتى اليوم، أو باعتبار الثقل البشري العالي، فتعداد سكان مصر تقريباً يوازي ثلث سكان الدول العربية مجتمعين، إضافة إلى موقع مصر الجغرافي المركزي الذي يتوسط أقطار العالم العربي.

ومهما اختلفنا حول مصر إلا أننا لا نختلف في أهميتها وقيمتها وثقلها، ومع الإقرار بهذه الأهمية والقيمة للشقيقة التي نعتز بها وبشعبها أيما اعتزاز، إلا أنه في المقابل هناك فرضية غير مفهومة نتعرض لها جميعاً بالذكر من دون أن نراجعها، ألا وهي فرضية الأمين العام للجامعة العربية الذي نسلم جميعاً بكونه ينبغي أن يكون مصرياً، ونقر بهذه الحقيقة، ثم يكون خلافنا حول أحد شخصيتين ترشحهما مصر في حال الاختلاف على شخص المرشح، وهذا نادر بالمناسبة، ففي العادة مصر لا ترشح إلا شخصاً واحداً وعلى جميع الدول أن تصوت عليه، وبالقبول طبعاً.

لكنّ قدراً من التأمل في هذا الأمر يضعنا أمام حقيقة أن ميثاق الجامعة العربية لم ينص على شرط أن يكون الأمين العام مصرياً، هذا أمر، والأمر الآخر أن هذا يتعارض مع مبدأ الشراكة بين الدول الأعضاء. نعم، نعلم جميعاً أن مصر الشقيقة عضو مؤسس لجامعة الدول العربية، ونعلم جميعاً أيضاً أن الأمين العام للجامعة العربية وقت تأسيسها كان د. عبدالرحمن عزام مصري الجنسية، وظل الأمين العام لجامعة الدول العربية من مصر حتي يومنا، هذا فقط عندما انتقلت الجامعة العربية إلى تونس عين الأمين العام تونسياً، وعندما عادت إلى القاهرة عاد من جديد منصب الأمين العام إلى مصر، وقبل أيام كنا نعيش مشهد التصويت على انتخاب الأمين العام للجامعة العربية بتفاصيله القديمة الجديدة لم يتغير منها شيء، اللهم إلا بعض المناوشات هنا أو هناك، لكن الأمور سارت في مسارها المعتاد، شأنها شأن سنن الكون ونواميسه الأزلية.

ولعلها تكون فرصة مواتية لنبارك لمعالي الأمين العالم للجامعة العربية السيد أحمد أبو الغيط وزير خارجية مصر الأسبق. وبعيداً عن شخص معالي الأمين العام بالطبع، واستكمالاً لما بدأنا طرحه حول هذه الفرضية الحتمية فيما يتعلق بمنصب الأمين العام للجامعة العربية، وبالمناسبة فلقد خطرت لي فكرة كتابة الموضوع إبان السجال الدائر حول استقالة الأمين العام السابق، وبدء إجراءات التصويت على الأمين العام الجديد، ما يعني أنني أتحدث عن شخص افتراضي وليس شخص الأمين العام الحالي على الإطلاق، فيبقى السؤال: ما الذي يمنع أن يُتداول منصب الأمين العام بين الدول العربية؟ لماذا هذه المسلمة التي لا أجد أن من مصلحة القاهرة نفسها بقاءها هكذا؟ لماذا تتمسك القاهرة بأن يكون الأمين العام مصرياً، فمن مصلحة القاهرة نفسها أن يكون الأمين العام من دولة عربية أخرى، فهذا حري بأن يجعل بقية الدول العربية تشعر بالانتماء إلى الجامعة، وبالشعور والمسؤولية عنها، أيضاً من شأن هذا التنوع أن يجدد الدماء ويضخ الحماسة في عروق الدول المشاركة، سواء التي يختار منها الأمين العام رغبة في إثبات حضورها، أو التي لم يأت عليها الدور بعد تطلعاً لليوم الذي يأتي عليها فيه الدور حتى تعد مشروعاتها ورجالها الأكفاء لرئاسة الجامعة، ولا غضاضة في الأمر على الإطلاق، والشاهد على ذلك بين أيدينا، فعلى سبيل المثال مجلس التعاون الخليجي، هذا على صعيد الخليج العربي، أما على الصعيد العالمي فهناك الاتحاد الأوروبي وغيره من المنظمات العالمية.

بقي أن نقول إن هذا التنويع والتداول الذي نتطلع إليه في مقعد الأمين العام للجامعة العربية، ما كان له على الإطلاق أن يقلل من قيمة مصر أو مكانتها أو تأثيرها، فنحن وأشقاؤنا في مصر نعلم أن مكانة مصر محفوظة، فضلاً عن أن التأثير والحضور ليس بهذه الأمور التي تبقى رمزية، لكن كان الأمل والطموح ألا تتحول إلى مسلمة تشعر الجميع بالزهد في هذا المقعد، ومن ثم الزهد في نجاح هذا الكيان أو عدم نجاحه، فضلاً عن أن منصب أمين الجامعة تكليف وعبء كبيران، فلماذا تحرص القاهرة على تحمل هذا العبء وحدها، في وقت مضطرب بالأزمات والعواصف السياسية التي تضرب المنطقة بأسرها وتستهدف الدول العربية، ما يستدعي أن تكون الأعين باستمرار على الجامعة وأمينها، ما يجعل من الحكمة أن يتقاسم الجميع هذا العبء، وألا يتحمل تبعات تراجع دوره أحياناً بلد بعينه، أيضاً في مقابل التمسك المصري بمنصب الأمين العام للجامعة، يحدونا الطموح إلى أن يدار الأمر في جو من التفاهم الأخوي الذي يليق بأشقاء، وألا تحول بعض الأطراف التصويت على شخص الأمين العام إلى حلبة صراع بداعي بعض الخلافات الداخلية، وهو أمر وارد بين الأشقاء، فهذا من شأنه أن يجعل القاهرة تستشعر روح العداء في الأمر، وتخوض المنافسة بتحدٍّ في أجواء من الانقسام لا تليق بأشقاء.

نجدد المباركة لمعالي الأمين العام السيد أحمد أبو الغيط، فلم يكن ما تطرقنا إليه سوى أفكار وتساؤلات من أجل المستقبل.