نزل القرآن الكريم على النبي، صلوات الله وسلامه عليه، كافيًا، شافيًا لما في الصدور؛ وعدد آياته يزيد على 6 آلاف آية، منها ما يقرب من 500 آية -كما يقول العلماء على تفاوت في العدّ- في الأحكام، أما سائره ففي الإيمان والأخلاق وسنن المجتمعات وأخبار الأمم السابقة التي أهلكها الله بسبب الكفر والعصيان والفواحش؛ ما يدلّك على أن جوهر رسالة الإسلام إنما هو الإيمان والتزكية الروحية والأخلاقية، والتطهّر الحقيقي من أوضار الصفات وكدوراتها ظاهرا وباطنا.

وبعد مدّة من وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، ورحيل الجيل الأوّل من الصحابة، رضوان الله عليهم، بدأ المسلمون يفردون لكل علم من العلوم المتعلقة بهذا الكتاب الكريم مسلكا منفردا؛ له مصطلحاته الخاصة، وعلماؤه المبرِّزون، فظهر علم التفسير، وعلم الفقه، وعلم الأصول، وعلم العقائد، وعلم التجويد، وعلوم القرآن، وعلم الحديث، وعلم الرجال، وانفرد كذلك علم مستقل يسمّى علم الآداب والسلوك؛ أو ما يعبّر عنه مصطلح (التصوّف).

يقول الباحثون إن هذا العلم ظهر أوّل ما ظهر على أيدي طائفة من الزهاد في القرن الثاني الهجريّ، انصرفوا إلى التقلل من الدنيا، والزهد فيها ردّ فعل لانتشار الترف تلك الأيام، ظهر هذا العلم كشأن سائر العلوم مقولات وتعاليم متناثرة، ثم لم يلبث أن تطوّر، وأصبحت له قواعد ومراحل ومصطلحات و"إشارات". ثم صار له أساتذة وتلاميذ، فأما الأستاذ فيسمّى (المسلِّك)، وأما التلميذ فيسمّى (السالك)؛ ذاك أن كل إنسان سالك في هذه الحياة إلى الله تعالى، هذا هو المقصد من وجوده، وربما يحتاج إلى (مربٍّ) خبير يعينه على هذا الطريق، ويساعده في تحقيق التقوى والصلاح كما يفعل المربّون ذوو الشفقة والحدَب، وكما يفعل الدعاة إلى الله بالتربية والقدوة والأسوة والمتابعة.

وما تمّ القرن الرابع حتى تكامل هذا العلم منهج حياة كاملاً؛ جوهره تصفية النفس، (والتخلية) من كل صفات السوء، ثم (التحلية) بصفات الخير والبرّ والمعروف، من الافتقار إلى الله، والتذلل له وحده، والتعالي على شهوات النفس ومغريات الحياة، والشفقة بالناس والرحمة بهم، سعيًا إلى "السعادة" و"الطمأنينة الروحية"، وهي غاية ما يريد السالك تحقيقا لقول الله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}.

وقد تعدّدت تعريفات "أهل الطريق" للتصوّف إلا أنها جميعها تصبّ في شيء واحد = (الأخلاق)، وهو ما أشار إليه ابن القيّم -رحمه الله- في كتابه الشهير الطنّان (مدارج السالكين)؛ إذ قال: "الدين كله خُلُق. فمن زاد عليك في الخُلُق: زاد عليك في الدين. وكذلك التصوف. قال الكناني: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق: فقد زاد عليك في التصوف.". انتهى.

ذاك أن التديّن ليس هو تلك الشكلانيات والمظاهر التي إذا رأينا ميسمها على فردٍ قلنا: هو متديّن، بل التديّن له جوهر، وجوهره الأخلاق الكريمة بلا ريب. أخلاق بين العبد وربه، وأخلاق بين العبد والعبد، فمن حسنت أخلاقه في هذا وذاك فهو المتدين الحقيقي، وما نقص منه في ذاك أو هذا نقص ذلك من تديّنه، كيف لا والنبي الأكرم، عليه الصلاة والسلام، يقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"؟

غير أن التصوّف كسائر العلوم غيره قد ينحرف أصحابه عن الطريق قلّوا أو كثروا، وقد ينتسب إلى هذا الطريق (النهّازون) و(النهّابون) والكذَبة والدجالون، كشأن سائر ذوي الأمراض والأطماع.

وقد أجاد ابن تيمية -رحمه الله- وأفاد إذ قدّم نقدا عظيما جدا لبعض المسالك المنحرفة في التصوّف، لا سيما التصوف الفلسفي، وبينه وبين أهله مناظرات وشؤون وأحوال؛ إلا أن ابن تيمية لم يلغ التصوف كله، بل أقرّ فيه ما كان مقيدا بالكتاب والسنّة كما قال "شيخ الطائفة" الجنيد، يرحمه الله.

بل إن ابن تيمية -يرحمه الله- قد لبس "الخرقة"، وهي العمامة التي كان يلبسها السالك تعبيرا عن انضمامه إلى طريق السلوك، ذكر هذا الشيخ يوسف بن حسن بن عبدالهادي الحنبلي (ت 909)، في مقدمة كتابه (بدء العلقة بلبس الخرقة)، وذكر أن ابن تيمية قال ما نصُّه: "وقد كنت لبست خرقة التصوّف من طرف جماعة من الشيوخ من جملتهم الشيخ عبدالقادر الجيلي، وهي أجلّ الطرق المشهورة". أي إن سنده فيها ينتهي إلى الجيلاني، ونقل عنه أنه قال: "فأجلّ الطرق طريق سيدي الشيخ عبدالقادر الجيلي، رحمة الله عليه". وقد شرح ابن تيمية جزءا من كتاب فتوح الغيب للشيخ الجيلاني، وهو كتاب في التصوّف، ومعلوم أن الشيخ عبدالقادر الجيلاني الحنبلي شيخ طريقة صوفيّة مقيدة بالكتاب والسنّة، وكانت له زاوية يحضره فيها المريدون والسالكون، وهو يشرف عليهم ويربّيهم ويتعاهدهم حسبة لله الكريم.

وقد لاحظتُ وأنا أقرأ طبقات الحنابلة، وذيل الطبقات، والمقصد الأرشد، أن التصوّف خطّ عامّ لدى السادة الحنابلة. وله فيهم أعلام كبار جدا، مترجم لهم في الطبقات، منهم عبدالقادر الجيلاني، ومنهم الإمام الهروي (شيخ الإسلام) الذي ألّف كتاب (منازل السائرين)، وهو في التصوّف، وقد شرحه ابن القيّم، رحمه الله، (تلميذ ابن تيمية الأثير الأوفى) في كتابه (مدارج السالكين)، وهو كتاب نافع جدا، وقيّم جدا، وأسلوب ابن القيم فيه أسلوب من ذاق فعرف، وليس أسلوب من سمع فنقَل، وفيه طلاوة وجمال ورقّة جذّابة. ومنهم الإمام ابن الجوزي الذي نقد بعض مظاهر التصوّف السلبي في كتابه تلبيس إبليس.

ليت شعري أين ذهب التصوّف عند السادة الحنابلة اليوم؟ فما بالنا لا نرى علَما صوفيًّا من أعلامهم، ولا نرى لهم مسلّكًا يتعاهد مريديه بالتربية آخذًا بأياديهم من التخلية إلى التحلية؟ ولماذا لا يعتنى بمدارج السالكين لابن القيم شرحا وتطبيقا كما يعتنى بكتب العقائد؟ إذ لا تعارض بين الأمرين.

إني أرى أننا بحاجة ماسّة هذه الأيام إلى التصوّف الرشيد، التصوّف الإيجابي، التصوّف الذي يعنى بالأخلاق، ويغرس في القلوب الرحمة والرأفة واللين؛ لا سيما في هذه الأجواء المشحونة التي تزلّ فيها الأقدام، ويكثر فيها الهرج والمرج، وتشتد فيها النزاعات والخصومات، فتنسي الناس علائق الأخوّة، وقيم الإسلام العليا من التراحم والتعاطف والشفقة.