جاء نص فتوى تحريم عمل المرأة "كاشيرة" (محصلة أو محاسبة)، متأثراً بطريقة السؤال الساعية لاستنطاق حكم تحريم، وبإهمال هذا الجانب الواضح أظن أن الفتوى أجدر بمناقشة جانبيها الأساسيين، الاستدلال، والمسوغات، تحقيقاً لإقرار اتصاف الجهد الإنساني بصفتين أولاهما المحدودية وثانيهما النسبية، وهاتان الصفتان في جوهرهما ركيزة كل جهد بشري قابل للتطور والتنامي والإثراء، ولنذكر بمتطلبات رفض القيود التي يتسبب فيها النقل المجرد من العقل، وبثقافة تركن للتقليد لا التفكير، والتي دائما يكررها المشايخ نافينها عن أنفسهم وملزمينها بقبول النقد، لنضعها على محك المصداقية، في تقبل نقد مخالف بالجملة طلباً لقبول الأخذ والرد.

من المعلوم أن القرآن الكريم كان عرضة لقراءات إسقاطية سواء بالاحتجاج بأجزاء من آيات لا بآيات كاملة، أم باقتطاع آيات من سياقها التاريخي أوالنصي، وآية "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" كاستدلال للتحريم في فتوى الكاشيرات وردت في سورة الطلاق، والاستدلال بها هنا مقطوع من السياق الذي يعين على فهم المدلولات، إذ جاءت في شأن المطلقة استنطاقاً لتقوى المرء بضرورة تحقق أركان الأمر بالإمساك بمعروف، أو التسريح بإحسان، مؤكدة على ضرورة الشاهدين في حالتي الإمساك والتسريح، فالواضح من سياق الآية أن التقوى وردت للحث على التقيد بحدود الله،لا لاستجلاب أمر يحرم أو يحلل، فالتقوى شأن قلبي يعود لتربية وجدانية للشخص بنفسه ولنفسه، والتي جاء جزاؤها عند الله في الآية فتح الموصد من أبواب التيسير والرزق، والذي يعني في سياق الآية الوصول للشخص المناسب سواء للرجل أو المرأة، وإن قبلت الآية الاتساع لمفهوم مادي فلا ترتبط باستناد يوجب حكماً فقهياً يُتخذ كعقوبة على من لم يتقِ الله، بل هي ترغيب قلبي للفرد ليصدق في نيته ويخلص عمله لله، ولاوجه لمقاربة التحريم فيها أصلاً، وتقوى الله بسعتها أيضاً تتطلب الحرص على اتقاء إغلاق أبواب الرزق التي جعل الله فتحها جزاء لمتقيه، فكيف توظف تقوى القلب كسبب مانع للرزق بل وبغلق أبوابه، وهنا تبرز لنا إشكالية ثنائية النص والواقع في فهم النص وتفسيره، ومن ثم تطبيقه، ودور الفقيه الحاذق في الاستنباط والتوظيف المناسببين للواقع.

إن العمل الشريف لا يقبل التجزئة فهو مباح، ومادام العمل صالحاً وشريفاً للرجل فيأخذ ذات الحكم للمرأة، ولايمكن وصف عمل بالحرام أنوثة والحلال ذكورة، بالتالي التلويح بأن من قام بهذا العمل لا يتقي الله هو تعدٍ على أصحاب الأعمال الشريفة "الكاشير" وعلى من أتاح لهن التوظيف، فكيف قاست الفتوى عدم التقوى عند نساء وجدت في عمل شريف باب خير يكفيها ذل السؤال والحاجة؟! وكيف وثقت أنها بعملها ستستبيح دثار التقوى وسياج الإيمان؟!

يعرّف علماء الشريعة التقوى بأنها "صيانة الإنسان نفسه مما يوجب العقوبة من فعل أو ترك"، وما يوجب العقوبة "الحدود" مسجل في القرآن ولا مجال لادعاء احتمالات متوهمة لوقوعه، بالتالي توظيف التحريم على أساس عمل القلب "التقوى" توظيف ظالم، كما أن التقوى لا يمكن قياسها بلا محكات تمتحنها.

ولمصداقية تحري الأمر لنستشهد بالمقارنة بالمثل؛ فهل عمل المرأة موظفة استقبال في المستشفيات هو باب شر يفضي لهتك وتفسخ التقوى من القلوب؟! لعل أبسط مطالب تقوى الله الحذر من إغلاق باب الرزق الحلال لمن وجد طريقا سالكا له، فالجميع محاسب.

أما المسوّغات المذكورة فهي الفتنة والافتتان والاختلاط، وأرجو من مشايخ هذه الفتوى أن يسألوا أنفسهم سؤالاً مهمّاً: كيف نجمع بين فتوى تحرم عمل المرأة بيع ملابسها الداخلية، وأخرى تحرم عليها عملها ككاشيرة، وهذا المعيار"الفتنة"؟! أيهما أشد فتنة؛ رجل يبيع لامرأة أخص خصوصيتها، أم امرأة تبيع مواد تموينية للعوائل في مكان حي وعام؟! ألا تستدعي ازدواجية المفاهيم هذه لإعادة نظر؟!، ألا تنبئ عن دافع وحيد وهو تحجيم دور المرأة ورغبة حبسها؟!، هذا عدا أن الفتنة سلوك يردع بالتقوى بواسطة الإنسان نفسه، ولا تستدعي التحريم والتحليل بناء على التوهم، وتعطيل المصالح، فأي شأن في الحياة لا يمكن أن يكون خيراً محضاً ولا شراً محضاً، والأمور كلها مختلطة، والحق معالجة الشرور المرتبطة بقوانين رادعة، ولا شك أن قاعدة درء المفسدة محرك إسقاط دائم على المرأة وإن قلبت لأجله المفاهيم والعقوبات، كما ذكرت في مقالي السابق من لجوء شيخ لتحميل امرأة إثم زوجها صاحب كبيرة الزنا، مما يعود بنا لقضية الذكورة المستبدة،أما الاختلاط فلا شك أن الحياة هي الاختلاط، والحياة لا يمكن سجنها داخل مقولات تراثية تحتكم للعادة والأعراف وتسعى لغلق أبواب الخير تجنباً للشر، وفي الواقع ما يكفي من القوانين للسيطرة على الشر وإن كان متوهماً.

بمفهوم إيماني قطعي وانفتاح عظيم على المباح يقول الحق (سخر لكم ما في السموات وما في الأرض) ليلزمنا بمقاربة المفاهيم النصية وفق سياق الواقع المتحرك والصاخب وأزمته الحضارية والتنموية، وبمساءلة مصغية لمتطلبات اللحظة الراهنة، وهنا يبرز الفرق بين هذا الحقل المنفتح الحر برؤية تعيد للإسلام دين الحركة لا سكون الظل، وبين مغالاة الفقهاء ذات الاحترازات المبنية على الظن والتوهم.

سؤال من كاشيرة:

يعلّمُنا الله احترام الكرامة الشخصية الإنسانية، إذ جُنّب الإنسان الإكراه، فهل يحق لمن ترى عمل الكاشيرة حقا لها أن تكفى شر الإكراه بالمنع؟!