غالب الأسبوع الماضي كنت على موعد خاص وممتع؛ قضيته في تطبيب سيدتي الوالدة (سلمى)، إثر عملية جراحية أجريت لها؛ شفى الله والدينا، وأولادنا، ومن يعز علينا أجمعين؛ ووجدت تسليتي في القراءة، فَالكتابة عن المرض، أو ما أسميه هنا تجاوزا، علم المرض وفلسفته.

الألمان ـ في نظري ـ أكثر من تكلم عن فلسفة المرض، وكمثال على ذلك الفيلسوف الألماني نوفاليس ـ توفي عام 1801 ـ ، والكاتب الألماني الشهير يوهان جوته ـ توفي عام 1832 ـ ، والفيلسوف الألماني نيتشه ـ توفي عام 1900 ـ الذي بلغت فلسفة المرض عنده أوجها، فقال: "المرض يجعلك عالما بأخفى خفايا النفس الإنسانية، وبأدق ما تحتويه من انفعالات ورغبات، وما يسيرها من دوافع وغرائز، ويضيف أن المرض وحده يشعر الإنسان بالصحة، ويجبره على دراسة الحياة، وفهم طبيعتها، لأنه يستثيره إلى المقارنة بين هاتين الحالتين المتضادتين، أما إذا استمرت حاله في صحة دائمة، فإنه لن ينتبه لمعنى الحياة؛ فالألم الشديد هو وحده الذي يخلص الروح ويحررها، وإنه الذي يرغمنا على النزول إلى أعمق أغوار نفوسنا، فإنه وإن كان ليس من شأن الألم تحسين أحوال الناس، ولكنه حتما يجعلهم أشد عمقا".

كلام المفكرين الألمان جعلني أبحث بعمق في كلام مفكرينا، فتذكرت كتاب (أوراق الورد) للأديب الكبير، والفيلسوف الرائع، الملقب بمعجزة الأدب العربي، مصطفى صادق الرافعي، ـ توفي عام 1937 ـ والذي نثر فيه صورا متعددة من الخواطر الإبداعية التي كتبها لمحبوبتيه، رغم معاناته من مرض الصمم ـ فقدان السمع ـ ، والذي لم يفت من عزيمته أبدا.. تعمق وتعملق في أوراقه بالكتابة عن فلسفة المرض قائلا: "الإنسان دائما في حاجة إلى بعض الأمراض، لا ليمرض ولكن ليصح، إلا أنواعا من أساليب الموت تسمى أمراضا لا حيلة فيها"، وفي آخر المقالة الممتعة يختم بمجموعة تسبيحات رائعات، ومنها: (سبحانك اللهم) إنما هذه الأمراض أخلاق أنت تنشئ بها الرحمة في قلوبنا المتحجرة، وتصرفنا فيها إلى نفوسنا بعد أن نكون قد جهلنا هذه النفوس في أعمال الحياة، أو جهلتنا، وتعلمنا جميل صنعك في تواتر حلمك علينا.. (سبحانك اللهم) إنما هذه الأمراض مواعظ منك تعلمنا كيف نضع شهوتنا في موضعها من الضرورة، ونحصرها في حدودها من الازدراء والمقت؛ فلا تعدو بطبائعنا علينا، ولا تعدو بنا على سوانا.. (سبحانك اللهم) إنما هذه الأمراض في الدنيا بعض مواد البحث الفلسفي العميق لدرس أساليب الطبيعة البشرية؛ فكم من عملية جراحية في طب الناس هي حقيقة عملية حسابية في وزن هذه الطبيعة وتقديرها، وكم من أنة وجع في المرض وهي نفسها كلمة عتاب بين الطبيعة والنفس، وكم من ضجعة للداء هي في الواقع نهضة للأخلاق من ضجعتها..".

العفو منكم أن شغلتكم بمقالة شجنية عن والدتي، فكما أن العجفاء بنت علقمة السعدي قالت لصويحباتها: "كل فتاة بأبيها معجبة"، وغدت مقولتها مثلا، فلا مانع من أن يقال: "كل فتى بأمه معجب".