ظل دور اليمن الخارجي عبر تاريخ الدولة الحديثة مرتبطا بالقراءات الانتهازية التي حددتها مصالح النخبة المهيمنة على الحكم والمعارضة، وهي قراءات في الغالب لم تتحيز للمصالح الوطنية كما هي في الواقع، ولم تمتلك نظرية واضحة لأمن اليمن ودوره الإقليمي، وظلت السياسة الخارجية وفهم دور اليمن مرتبطا بمصالح النخب السياسية المتناقضة بمعزل عن المصالح الجامعة للشعب، وعملت على تعبئة الوعي الشعبي بالأطروحات التي أسست لها صراعات السياسة الداخلية وتناقضات الإقليم وحاجات الدول الداعمة إلى تلك النخب، والتي تعاملت مع اليمن كأداة وظيفية للضغط على المنظومة العربية الخليجية، بصرف النظر عن المصالح الموضوعية والفعلية لليمن.
وكان التغيير في تركيبة القوة يعيد صياغة فهم دور اليمن الخارجي حسب مصالح النخبة في الحاكم والمعارضة وباتجاهات متناقضة، وظل الدور اليمني يغلي في مرجل التناقضات، وتتنازعه الاتجاهات، ولم تتمكن القوى الوطنية من بناء القيم الجامعة وتحديد العدو والمبادئ الحاكمة للسياسة الخارجية، ومع غياب نخب مثقفة محايدة ومتحيزة للمصالح الوطنية وللناس فقد الوعي الشعبي القدرة على تمييز مصالحه، وأصبح الرأي العام انعكاسا للأطروحات التعبوية التي تديرها حسابات سياسية متعاكسة، وعادة ما أنتج ذلك دورات صراع متلاحقة.
ورغم تراكم التجربة خلال الستين سنة الماضية إلا أن الواقع اليمني مازال يدور في متاهات النزاع، ولم يستفد من الأخطاء السابقة، فقد ظل ولاء النخب الداخلية يتنقل بين العواصم الدولية والإقليمية، فالجنوب ظل منذ الاستقلال قاعدة عسكرية وأيديولوجية لموسكو حتى تم إعلان الوحدة، ومن الارتباط اليمني بالناصرية المصرية شمالا إلى تدخلات البَعْثَيْنِ العراقي والسوري، وتدخلات ليبيا القذافي، وصولا إلى الطموحات التركية في مرحلة الانتفاضة الشبابية، إلى محاولة ابتلاع اليمن في المعدة الإيرانية، وشكلت الحوثية قلب الانقلاب الأكثر خطرا على المصالح اليمنية، وخططت ليكون اليمن منطقة فوضى دائمة لإدارة حروب إيران ضد العرب وحروب أوهام الولاية الحوثية وخرافاتها.
وما عمق من مشكلة فهم الدور اليمني أن السياسي اليمني وهو يفكر في السياسة الخارجية اليمنية والمصالح الوطنية، أنه يضع مصالحه الذاتية في المقدمة، ولا يحاول أن يعيد صياغتها وفق المصالح الكلية للمجموع الوطني، وإذا غرق في الأيديولوجيا يحول الوطن إلى أداة وظيفية لخدمة أجندة الدولة المركز المنتجة للأيديولوجيا، وعادة ما يتم توظيف الأيديولوجيا لخدمة نخبة أو أقلية.
القدر الجغرافي لليمن، وحاجات المصالح اليمنية، والأمن القومي العربي تقتضي بالضرورة ارتباط اليمن عضويا بالمنظومة الأمنية والعسكرية والاقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي، وهذا يقتضي إعادة صياغة المنظور الأمني الوطني بمعناه الشامل، بما يجعل التدخلات الخارجية المتعارضة والمهددة لأمن دول الخليج تهديدا مباشرا للأمن الوطني اليمني، وتمثل اليوم عاصفة الحزم وإعادة الأمل متغيرا جذريا في رفض التدخلات الخارجية في اليمن، ومع العاصفة تم تفعيل المنظور الذي حكم السياسات الخارجية الخليجية باعتبار اليمن جزءا لا يتجزأ من أمنها، فالتدخل العربي ليس إلا إعلانا حاسما وصارما أن توظيف اليمن ضد الخليج أمر لا يمسّ السيادة اليمنية فحسب، بل هو تحدّ مباشر أيضا لأمن دول مجلس التعاون.
لقد خطط كثير من الدول المعادية للخليج العربي على عزل اليمن عن محيطه الخليجي بهدف محاصرته وتوظيفه في صراعات القوى الإقليمية والدولية، وظلت الانتهازيات وأصحاب المصالح يدفعون بالشعب باتجاهات عدائية مناهضة لمصالحه وأمنه، كما أن قوى داخلية وظفت اليمن في عمليات ابتزاز لدول الخليج، وتمكنت من مراكمة مصالح على حساب الشعب اليمني، وقد كشفت الأوراق، وحسم أمر إخراج اليمن من الفوضى وإعادة بنائه.
اليوم مازال التحدي الأبرز أمام ولادة اليمن الجديدة وإعادة بناء دوره المستقبلي يتركز في إنهاء الانقلاب واستعادة الدولة ومساعدة اليمن على الخروج من المعضلة الحوثية والقوى المتحالفة معها، وأن تعمل القوى اليمنية المختلفة على بناء تحالفات واسعة ممتدة عبر الجغرافيا اليمنية، والعمل على نفي الوعي التقليدي للسياسة الخارجية اليمنية، وتجاوز الانقلاب الذي حاول جاهدا جعل اليمن مجالا للنفوذ المهدد للخليج، وكاد الانقلاب يخرج اليمن من دائرته العربية وبناء نفوذ هو الأشد خطرا على اليمن والمنظومة العربية من أي نفوذ سابق له، فهو نفوذ خاضع لوعي نخب عقائدية بنزعة عرقية كهنوتية ونخب انتهازية تمارس الابتزاز ضد دول الخليج وبشكل مباشر، وشكل التحالف الانقلابي خليطا غريبا يعبر عن مدى الردة الوطنية، ومازالت بعض الأطراف تمارس ضغطا عبر التحالفات الخارجية المضرة بأمن الخليج لتحقيق أرباح مزدوجة من الخليج والقوى المناهضة لأمنهم، إلا أن المتغيرات المستقبلية لن تمكنهم من تحقيق أهدافهم، فهذه السياسات التي حكمت وعي السياسة اليمنية ونخبتها بكافة أطرافها لم تعد مجدية في ظل عاصفة الحسم العربية، ونمو تيار وطني واسع متحيز بالمطلق للقضايا اليمنية ومصالح اليمن الواقعية وربطها بشكل عضوي بالمنظومة الخليجية.