عجيبة هذه الحياة بتحولاتها التي تغيّر الإنسان وتصقله سنة بعد أخرى.

بدأت ألحظ أخيرًا أن الحزن على فقد الأعزاء من أقارب وأصدقاء يأخذ في التناقص والتحلل ليقف "غالبًا عند حالة الأسى"، وذلك يحدث مع توطن النفس وتيقنها من الموت، ويزداد هذا اليقين مع تقدّم العمر، فكلما كبر الإنسان أدرك حقيقة الموت الذي كلما تكرر نقص مع التقادم شيء من هيبته، وبالتالي اكتسب الإنسان يقينا وتعود على هذا الزائر الثقيل.

لقد بدأت ألاحظ في ذهابي إلى المقبرة لدفن أحد الأقارب أو الأصدقاء أن الأطفال أو الشبّان يبكون أكثر، ويفتقدون المتوفى بقدر أكبر مما هو ظاهر على ملامحنا نحن الكهول، حتى مع كون المتوفى - ذكرا أو أنثى - ربما يكون لنا أقرب رحما أو نسباً أو عمراً من هؤلاء الصغار، لكنهم مع ذلك يبكونه أكثر، وينعونه بصورة أبلغ، فهل يفتقدونه أكثر منّا؟

لا أظن، لكن ربما أنهم كانوا يأملون أن يبقى معهم فترة أطول، وربما أن حزننا الظاهر أقل، لأننا بقينا معه مدة طويلة، لكن المنطق يقول إن طول العلاقة يكبّر حجم الخسارة والفقد، لكن لعل اليقين بالموت والتسليم بأنه قدر لا حيلة لنا فيه هو السبب.

عجيبة هذه الحياة

كنت قبل سنوات أخجل من كثرة بكائي على ميت، لأنني لم أكن ألحظ أن القريبين منه لا يبكون مثلي، فلماذا لا أكون مثلهم؟

والآن وبعد هذه السنوات فقد صرت أكثر صبرًا وجلادةً ويقينًا، لكنني صرت أخجل من قلة بكائي على عزيز فقدته، بينما يبكي أكثر من هم أصغر مني، وأبعد صلة بالميت مني.

عجيبة هذه الحياة في تحولاتها التراجيدية وما تنقشه في صدورنا وما تجففه في مآقينا.

إنها ليست - كما أظن - قلة الخاتمة، ولكنه اليقين الذي نكتسبه تباعًا بأن الموت حق لا ريب فيه، نسأل الله لنا وللجميع حسن الخاتمة.