تشرف وزارة الخدمة المدنية على عملية التوظيف في القطاع الحكومي، حيث تطرح الوظائف الشاغرة المطلوبة في كل قطاع مع إمكانية التقدم لها إلكترونياً عبر خدمة "جدارة"، وتخضع الوظيفة الحكومية لشروط ومعايير ومواصفات وخبرات ومؤهلات معينة لشاغل الوظيفة، ويجب توفرها في كل من يتقدم لشغل الوظيفة الشاغرة في أي مصلحة أو جهة حكومية أو إدارة من إدارات الدولة المختلفة.

والهدف من تلك المعايير والشروط هو إقرار مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين في الحصول على الوظائف الحكومية، بالإضافة إلى استقطاب الكفاءات الوطنية المؤهلة لشغل تلك الوظائف بكفاءة وفاعلية، ولكن قد يلاحظ البعض أن معايير التوظيف في القطاع الحكومي تواجه بعض المعوقات نتيجةً للولاء القبلي أو العشائري أو إرضاء أصحاب النفوذ حفاظاً على بعض المصالح أو الروابط الاجتماعية.

فقد لاحظ العديد من الباحثين والمتخصصين في دراسة الإدارة العامة وجود الإيثار والمحسوبية والواسطة في عملية التوظيف الحكومي، حيث يتم تغليب القبيلة أو العشيرة التي ينتمي إليها الموظف أو المصالح الشخصية على ما سواها من معايير وشروط وضوابط، وإيصاد السبل أمام الكفاءات الإدارية المؤهلة وعدم إتاحة الفرصة المتكافئة لهم.

وقد أكدت دراسة لأحد الباحثين لأثر الولاء للعشيرة أو القبيلة أو المنطقة في اختيار الموظفين الحكوميين أن 44% من المبحوثين أجابوا بأن أساس الإيثار والمحاباة والمحسوبية يعود إلى العشيرة أو المنطقة، وأنه بقدر الاهتمام بعامة الناس فإنه يتوقع من الموظفين الحكوميين القيام بخدمة مصالحهم الخاصة حتى ولو أدى ذلك إلى الإضرار بالمصالح العامة".

وليس هذا وحسب، بل إن الأمر أخطر مما قد يتصوره البعض أو ما أثبته الباحثون بخصوص الولاء للقبيلة أو العشيرة أو المنطقة، فعملية التوظيف الحكومي وصلت إلى حد تشكيل شلل وتكوين علاقات ومصالح شخصية متبادلة بين الجهات الحكومية نفسها، فهناك وظائف حكومية ليس لها تصنيف وظيفي في نظام الخدمة المدنية وتكون رواتبها على نظام المكافآت، فيتم التعيين عليها وشغلها من قبل موظفين حكوميين ومديرين في جهات حكومية أخرى نظير تقديم خدمات شخصية أو علاقات مصلحية متبادلة!

وهناك جهات حكومية أخرى قد يرغب أحد النافذين فيها بتوظيف ابنه أو ابنته أو زوجته أو قريب له مقابل تقديم خدمات حكومية خاصة في الجهة الحكومية المعلن فيها الوظائف، أو يتم اشتراط وظائف معينة على الشركات والمؤسسات المتعاقد معها وشغلها بالمقربين، وبالتالي يتم تكوين شبكة فساد وعلاقات ومصالح متبادلة، وتكون النتيجة فقدان الكفاءة الإدارية.

قد يتساءل القارئ الكريم ويقول كيف يتم اختيار الأشخاص للعمل في الوظائف الحكومية بناءً على نفوذهم الكامن وراء ولائهم العشائري والقبلي والمصلحي على حساب تأهيلهم المهني في ظل معايير وشروط ومواصفات وزارة الخدمة المدنية وإشرافها على الجهات الحكومية في عملية التوظيف؟ فهل هناك خلل في أنظمة الوزارة؟

الحقيقة أن هناك بعض الوظائف الحكومية لا تخضع لإشراف وزارة الخدمة المدنية إلا من الناحية الشكلية فقط، حيث يتم إعطاء بعض الجهات الحكومية صلاحية التوظيف الذاتي المباشر حتى المرتبة السادسة، وذلك لعدة مبررات، من أهمها طبيعة عمل الجهة الحكومية نفسها، والتي ترى ضرورة اختيار الموظفين من قبلها، بالإضافة إلى وجود برامج التشغيل الذاتي وغير الخاضعة لنظام الخدمة المدنية أو أن بعض الجهات تعتمد على نظام المكافآت المقطوعة أو وجود كادر وظيفي معين، وعليه يكون التوظيف مباشرة عن طريق إدارة شؤون الموظفين.

وعلى هذا الأساس، تقوم بعض الجهات الحكومية بإعلان الوظائف الشاغرة لديها على موقعها الإلكتروني في شبكة الإنترنت، وتحدد التخصصات والمؤهلات المطلوبة وشروط التقديم والتي تكون في الغالب مقتبسة من شروط وزارة الخدمة المدنية مع وضع رابط إلكتروني لاستمارة التوظيف مع إعطاء رقم طلب للمتقدم إلى الوظيفة، ليتم بعد ذلك إجراء المقابلة الشخصية للمتقدمين.

والمقابلات الشخصية يتم تشكيل لجان خاصة لها من قبل الرئيس الإداري للجهة الحكومية، يكون في عضويتها أحد مديري الإدارات الطالبة للوظائف المطروحة، وبالطبع يكون الاختيار على أساس المحسوبية والواسطة لفرز الآلاف من الكفاءات والمؤهلين المتقدمين إلى الوظائف الحكومية الشاغرة! وتلك الشروط والمعايير والإعلان ما هي إلا مظلة لاعتماد الموظفين الذين تم اختيارهم مسبقا وذر للرماد في العيون.

قد تتشدق بعض الجهات الحكومية بتمسكها بمبدأ الشفافية في عملية التوظيف، وتعلن أسماء المقبولين ووظائفهم وتخصصاتهم، ولكن في المقابل تخفي معدلاتهم ومؤهلاتهم العلمية! وبعد ذلك يتم إرسال الوثائق والمستندات إلى وزارة الخدمة المدنية لاستكمال بعض الإجراءات الروتينية للتوظيف مثل الكشف الطبي واعتماد التوظيف وتبادل بعض المكاتبات والخطابات الشكلية!

وقرارات التعيين تتم عن طريق مدير عام أو رئيس إداري في نفس الجهة الحكومية وبعيداً عن إشراف وزارة الخدمة المدنية، ولا يوجد من يراجع تلك القرارات أو يعتمدها سواء من داخل الجهة أو خارجها، ومثل هذه الممارسة تبين أن هناك ضعفا في نظام الرقابة الداخلية يؤدي إلى خطر متمثل في قدرة المدير أو الرئيس على تعيين من يرغب لأي غرض وحجب الوظائف المتاحة أو حجزها لأشخاص معينين.

وهنا أطالب وزارة الخدمة المدنية بمراجعة قرارات التعيين في الجهات الحكومية التي تقوم بالتوظيف الذاتي المباشر، والتأكد من نظامية التوظيف بناءً على معايير الجدارة وتكافؤ الفرص للمتقدمين إلى الوظائف الشاغرة والمساواة بيننهم. ولكن أخشى ما أخشاه هو التواطؤ المحكم بسبب تضارب المصالح!