قررت المغرب مؤخراً العودة إلى تدريس الرياضيات والعلوم بالفرنسية من السنة الأولى الابتدائية، بدلاً من السنة الثالثة، بعد 3 عقود من حملة التعريب التي استهدفت تعزيز المعرفة بالعربية والحديث بها بعد تحررها من الاستعمار الذي عمل على إضعاف اللغة العربية.

وفي حين رأى البعض في القرار الأخير انتكاسة لتعليم اللغة العربية، فإنه قد لا يكون كذلك بل ربما كان مؤشراً إلى أن حملة التعريب قد آتت أكلها، وأصبح التحدي هو مواجهة ضعف تحصيل الطلاب في المواد العلمية.

وتضمن القرار أيضاً التبكير بتدريس اللغة الإنجليزية بحيث يبدأ في الصف الرابع الابتدائي، واتخذت السلطات التعليمية قراراً هذا الشهر (مارس 2016) يشترط معرفة الفرنسية والإنجليزية للالتحاق ببرامج إعداد المعلمين. ورداً على قلق البعض من الانعكاسات السياسية لهذه القرارات، أوضح المسؤولون المغاربة المكانة الدستورية للغة العربية التي لا تنافسها فيها لغة أخرى، فضلاً عن مكانتها الدينية والاجتماعية. 

وهناك تخوف لدى بعض الآباء والأمهات من أن تعلم الطفل لغة ثانية أو ثالثة يتم على حساب اللغة الأم، ولكن ذلك لا يبدو على إطلاقه متى ما كان تدريس اللغة الأم على المستوى المطلوب. فالدراسات العلمية المتعددة تُظهر أن تعلم لغتين أو أكثر في الوقت نفسه مفيد للطفل في نواح كثيرة.

والقرار الجديد يعني لحاق المدارس الحكومية بالمدارس الخاصة التي تدرس فيها تلك المواد بالفرنسية. ونظراً إلى أن تلك المواد تُدرس باللغة الفرنسية في المرحلة الجامعية فإن خريجي المدارس الحكومية يعانون في المرحلة الجامعية مقارنة بخريجي المدارس الخاصة، مما انعكس سلباً على مستوى التعليم في المغرب في المقارنات العالمية، إذ يشير تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD إلى أن المغرب يحتل المرتبة (73) بين (76) دولة في مستوى القدرات في الرياضيات مثلاً.

أثار هذا الانخفاض في مستوى المهارات قلق الآباء والمسؤولين في المغرب منذ فترة، فازدادت أعداد الأطفال الملتحقين بالمدارس الخاصة، حيث تدرس الرياضيات والعلوم منذ الصف الأول الابتدائي، وارتفعت نسبة طلبة المدارس الخاصة من 9 % في 2000 إلى 15 % في 2015 من إجمالي عدد الطلبة، حسب بعض التقارير الدولية، مما يعني زيادة الفروقات بين الطلبة في المرحلة الجامعية، حيث تدرس تلك المواد باللغة الفرنسية. وقد دفع ذلك (لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) إلى التحذير في عام 2015 بأن ارتفاع نسبة الالتحاق بالمدارس الخاصة في المغرب يؤدي إلى خلق نوع من الطبقية له انعكاسات اجتماعيات سلبية بسبب اختلاف فرص الحصول على وظائف، مما يؤدي إلى تعميق التمايز في مستوى الدخل بين الخريجين.

ولقياس تأثير وتداعيات الخطوة المغربية يمكن النظر إلى نتائج دراسات أجريت في أوروبا والولايات المتحدة لقياس آثار ثنائية اللغة bilingualism. وتتميز الولايات المتحدة الأميركية خاصة بإحدى أعلى النسب في العالم في التعدد اللغوي، بسبب ارتفاع مستويات الهجرة العائلية إليها، حيث تتجاوز نسبة من يتحدثون بلغتين أو أكثر من 20%، هي عادة لغتهم الأم واللغة الإنجليزية.

تظهر تلك الدراسات أن الطلبة ثنائيي اللغة يتمتعون بتحصيل علمي أعلى، ونسب أعلى من الإبداع والابتكار، وقدرة أكبر على تحمل الأعباء الدراسية وحل المسائل المعقدة، وسرعة أكبر في الوصول إلى القرارات الصحيحة، وسهولة أكبر في الحصول على المعلومات.

وبعد التخرج، يتمتع ثنائيو اللغة بتنافسية أكبر في سوق العمل من أقرانهم الذين لا يتكلمون إلا لغة واحدة، مما يؤدي إلى ارتفاع مستويات دخلهم.

ومن الناحية الاجتماعية والسياسية، فإن من يتحدثون لغتين أو أكثر يتمتعون بقدرات أكثر لاكتساب المعرفة والإحاطة بأخبار العالم، وأظهروا تقبلاً وتسامحاً أكثر تجاه الآخرين، وقدرة أكبر على الانسجام والتوافق الاجتماعي مع الشعوب الأخرى.

ومن ناحية الصحة النفسية، أظهرت تلك الدراسات قدرات أكبر لمن يتحدثون أكثر من لغة على التعامل مع مشاكل الحياة وتأخر أعراض الشيخوخة لديهم، واحتفاظهم بقدراتهم الفكرية في أعمار متقدمة، مقارنة بأقرانهم ممن لا يعرفون سوى لغتهم الأم.

ولذلك، فإن تعلم لغة ثانية أو ثالثة منذ الصغر هو أسهل الطرق لتعزيز التحصيل العلمي من جهة، وزيادة فرص العمل من جهة أخرى، فضلاً عن تعزيز قيم التسامح في المجتمع.

ولكن السؤال المطروح، ما اللغة الثانية الأنسب؟ دول المغرب العربي وجدت أن الفرنسية هي الأسهل بسبب ارتباطها التاريخي بفرنسا، حيث يعيش الملايين من مواطنيها وذوي الأصول المغاربية في فرنسا، مما يجعل الفرنسية لغة تواصل مع المهاجرين الذين لا يعرفون العربية.

ولكن، وهذه الدول أمام قرار مصيري باختيار لغة ثانية، هل ما زالت الفرنسية اللغة الأفضل لاكتساب المعرفة العلمية والعملية والميزات الأخرى التي أشرتُ إليها؟ لا يبدو ذلك، حسب الأرقام: يتحدث الفرنسية اليوم (80) مليوناً فقط كلغة أولى، مما يضعها في المرتبة الـ(18) من حيث عدد الناطقين بها، بعد الصينية والإسبانية والإنجليزية والعربية والهندية وغيرها. وبالنظر إلى المتحدثين باللغة الفرنسية كلغة أولى أو لغة ثانية، فإن الرقم يرتفع إلى (220) مليوناً، مما يجعلها في المرتبة (12) بين لغات العالم، بعد الصينية والإنجليزية والإسبانية والعربية وغيرها.

تبدو اللغة الإنجليزية هي الأقرب إلى تحقيق الفوائد المختلفة لثنائية اللغة، بسبب كثرة المواد العلمية والثقافية المكتوبة بها أو المترجمة إليها، أكثر من أي لغة أخرى، ويتحدث بها أكثر من (840) مليوناً حول العالم، وهي لغة الاقتصاد والأعمال والكومبيوتر، مما يجعلها الأنسب لأسواق العمل كلغة ثانية.