منذ أن عرفت المملكة الأحداث الإرهابية عام 2003، سارعت إلى البحث عن طريقة ترجع بها الشبان الذين غرر بهم المتطرفون واستدرجوهم إلى طريق الإرهاب. وتمحور التفكير الأول في كيفية إنقاذ أولئك الشباب، قبل ضبطهم كمجرمين وتقديمهم إلى العدالة، إيمانا من الدولة بأن الخير موجود في الشباب السعودي، وأنه إذا كانت قلة قد اختارت طريق الإرهاب فإن الغالبية تعرضوا إلى خدعة كبيرة، وغررت بهم جهات أخرى، لتنفيذ أجندة خاصة بها، وباتوا أدوات لضرب مقدرات وطنهم في أمنه واستقراره.
هنا يتجلى التطبيق العملي للمبدأ الإسلامي الأصيل، الرحمة قبل العدالة، وافتراض حسن النية قبل البحث عن أدلة التجريم، ودرء الحدود بالشبهات، وهنا تبدو نظرة الدولة إلى مواطنيها، والرغبة في إحاطتهم بالتكريم والعناية، والحرص على مصلحتهم.
لم يتوقف حرص الدولة عند حدود الأبرياء فقط، بل تعدى ذلك ووصل حتى المتورطين –ما دامت أياديهم لم تتلطخ بدماء الأبرياء ولم يولغوا في جرائم حدية– فتم إنشاء مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة عام 2006، تلك التجربة الرائدة التي بادرت العديد من الدول الكبرى إلى اقتفاء أثرها والوقوف على جوانب تفردها، اعترافا منها بنجاحها.
تقوم فكرة المركز في الأساس على مبدأ رئيسي، هو أن انحراف الفكر لا يمكن القضاء عليه بالوسائل الأمنية فقط، وأنه لا بد من فكر مضاد، وأن الحجة لا بد أن تقارع بالحجة، وأن الإقناع والمنطق الصحيح هما أفضل السبل للوقوف في وجه من يريدون خداع الأبرياء وتوريطهم في قضايا أمنية وجرائم حدية، الدين منها براء، وذلك باجتزاء النصوص من سياقها، واستخدام الأمور المشتبهة، ولي عنق الحقيقة، وتحوير أسباب نزول الآيات وظروفها وتوجيهها في غير السياق الطبيعي لها، والفعل الأكثر بشاعة وقبحا من كل ذلك هو إلباس تلك الأفعال لبوسا دينيا، ونسبها إلى الإسلام، ذلك الدين الذي لم يسبقه دين آخر في تكريم النفس البشرية، بغض النظر عن دينها وعرقها وماهيتها، وبلغ من تكريمه لها أن جعل عقوبة من يزهقها أو يتسبب في موتها كأنه قتل الناس جميعا، وثواب من يبادر إلى الحيلولة دون ضياعها، أو تقديم المساعدة لها، كأنما أحيا الناس جميعا.
في تلك المراكز لا يتم التعامل مع المتشددين من وجهة نظر قانونية، فهناك فصل تام بين ما يقوم به المركز وما تقوم به المحاكم والقضاء الشرعي، تطبيقا من الدولة لمبدأ استقلال القضاء، وعدم التدخل في شؤونه، لكن الذين تصدر بحقهم عقوبات بالسجن تتم مناصحتهم في المركز، عن طريق علماء أجلاء في الشريعة والفقه والقانون وعلم النفس، وغير ذلك من جوانب العلوم الشرعية. يتم إيضاح المنهج الأصيل لهم، وتزال من على عقولهم الغشاوة التي وضعها أقطاب التطرف، ويرد العلماء على الشبهات التي تدور في رؤوسهم.
يستمع العلماء الأجلاء لأولئك المضللين في صبر وأناة، كما حدثني أحد العاملين في المركز، لقناعتهم بأنهم مشحونون، يحتاجون إلى تفريغ طاقة مكبوتة في دواخلهم، وفي كثير من الأحيان يوجه المضللون شتائمهم وإساءاتهم إلى أولئك الأفاضل، ويرمونهم بالعديد من التهم المقولبة التي ملئت بها عقولهم، وحفظوها، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء فهمها وإدراكها والتثبت –شرعا– من حقيقتها. لكنّ القائمين على تلك المراكز يعملون وفق أسلوب معين، أساسه أن أولئك المساكين منفصلون عن الواقع، وأن معظمهم تعرضوا إلى التضليل والتدليس من آخرين، نزعت من قلوبهم الرحمة، وحجبت عن دواخلهم الحكمة، لذلك فهم أكثر ما يكونون حاجة إلى من يأخذ بأيديهم ويرشدهم إلى سواء السبيل.
ومن أجل إخراج المستهدفين عن جو الوعظ التقليدي، الذي ربما تنفر منه نفوس البعض، يتم تنظيم فعاليات ترفيهية لهم، وتزود مراكز التوقيف بمستلزمات الأنشطة الرياضية، التي تساعد بدورها على تفريغ الطاقة الزائدة بدواخلهم، مما يجعلهم أكثر قدرة على تقبل النصح، ومراجعة الذات. ومع أن بعض من تتم مناصحتهم يتظاهرون بالاقتناع، وما يلبثون أن يعودوا إلى ارتكاب نفس الأفعال الإرهابية عقب الإفراج عنهم، إلا أن الغالبية العظمى -خصوصا فئة صغار السن- يحققون الفائدة المرتجاة من المركز، ومعظمهم يبدو كأنهم أفاقوا من غيبوبتهم، بعد أن يدركوا أنهم تسببوا في إيقاع الضرر بأبرياء لم يقترفوا إثما.
وحرصا من الدولة على عدم عودة المغرر بهم إلى طريق الإرهاب، فإنها تبذل جهدها لإعادة اندماجهم في المجتمع من جديد، فتتم إعادة الموظفين منهم إلى أعمالهم التي كانوا يعملون فيها قبل اعتقالهم، وتتم مساواتهم وظيفيا بأقرانهم، ومن لا وظيفة له تتم مساعدته على فتح مشروع يكون بداية لانخراطه في خدمة مجتمعه، فتقدم الهبات لهم والقروض الحسنة، حتى من يحتاج إلى الزواج تتم مساعدته، فماذا بعد هذا الإحسان؟
إن تجربة مركز محمد بن نايف للمناصحة تجربة سعودية بامتياز، لم تسبقنا إليها أي من الدول التي ابتليت بداء الإرهاب قبلنا، ولم تفكر فيها مراكز الدراسات والأبحاث التي أنشئت لأجل البحث عن أفضل السبل للوقوف في وجه تلك الآفة، وهذا يدل على عبقرية إنسان هذه البلاد، وعلى رغبة الدولة في احتضان أبنائها وتوفير فرص العيش الكريم لهم، وصفحها عن بعض من يمد يده بالإساءة.
ولأن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، فإن الإشادة ينبغي أن توجه إلى ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف، صاحب العقل المتقد والروح الوثابة، الذي استطاع في سنوات قلائل كتم أنفاس الإرهاب، والحد من خطورته، والتصدي له بفعالية ونجاح، بطريقة أجبرت دولا غربية كبرى على الاعتراف بنجاحاته، والاستئناس برأيه، حتى أطلق عليه لقب "قاهر الإرهاب".