كان الحديث هنا عن البحث والقدح كنمطين من أنماط التفكير والتفاعل مع الواقع. القدح يقوم على منطق الاكتفاء الذاتي في التفكير واتخاذ المواقف. القدح هنا تعبير عن الذات أو إعلان لوجود الذات. فاعلية الذات هنا أهم من منتجها عن الواقع. ما يقلق القادح هو إعلان وجوده من خلال قرارات وأفكار تشير في كل تفاصيلها إلى فرادته. من المهم للقادح هنا ألا يكون شريكا ولا مثيلا لأحد. أي وضع له في صورة مشتركة لا يكون هو زعيمها يجرح مشاعره ويقلق وجوده. لفت انتباهي كثيرا أن كثيرا من المثقفين السعوديين لا يحبون الحديث عن تتلمذهم على أحد أو تأثرهم بأحد. في أحسن الأحوال يختار المثقف مؤثرا بعيدا جدا في التاريخ أو المكان لا يؤثر على قيمته بين أقرانه. بمعنى أن تأثره بأحد من أفراد بيئته القريبة قد يخفف من فكرة عبقريته الخارقة على الأقل في معايير بيئته. القادح هنا مشغول بذاته قبل وبعد أي شيء آخر. في المقابل الباحث مشغول بالخارج بدرجة أكبر. الفيزيائي شغوف بالطبيعة والبيولوجي شغوف بالكائنات الحية. عملهم يهدف لتقديم تصورات دقيقة عن هذه العوالم الخارجية لذا تتوارى كثيرا ذاتياتهم في مقابل الأبحاث التي يعملون عليها. هذا كان التقسيم الأساسي لكنه قد يبدو حتى الآن تقسيما في النوع وليس في الدرجة.

سأحاول هنا تقديم تصور آخر للقدح والبحث على أنهما درجات في سياق واحد. يقول جون ديوي إن من أكبر مغالطات الفلاسفة تحويل الاختلاف في الدرجة إلى اختلاف في النوع يورطنا في ثنائيات حادة. سأبدأ هنا بذكر المشتركين بين القدح والبحث. كل من القادح والباحث مشغول بذاته ولكن بشكل مختلف. القادح مشغول بذاته بشكل متسارع ومكثّف. يحتاج لتأكيد وجود هذه الذات باستمرار. الباحث أكثر استقرارا وأمانا لذا فإن ذاته تتأكد بشكل أبطأ وأعمق. التفكير القادح سريع ومفاجئ وذاتي. لكن أليست هذه الصفات موجودة كذلك في البحث؟ البحث في الأخير ليس عملية آلية روتينية بل عمل إبداعي. الإبداع في البحث يبدأ أحيانا بأفكار خاطرة ومفاجئة وقد تبدو بلا مبررات واضحة من الوهلة الأولى. شرارة الإبداع في الأخير هي الوقود الذي يحرك البحث والتقدم العلمي. يبدو أن كيفية التعامل مع هذه الشرارة هو ما يميّز البحث عن القدح كما سأحاول الإيضاح لاحقا. كذلك من العوامل المشتركة أن القادح وإن شغلت ذاته الاهتمام الأكبر مقارنة بالواقع والحقيقة إلا أنه لا يستطيع مغادرة الواقع بالكامل وإلا اعتبر مجنونا. المشكلة التي يواجهها القادح أنه يصعب عليه الفصل بين الوصف والتقييم. الوصف يحتاج قدرا معيّنا من الموضوعية وتخفيف انحيازات الذات. القادح متأقلم مع التقييم لأن التقييم بطبيعته ذاتي ويعبّر عن موقف الذات مع ما حولها. إذا كانت الصورة السابقة دقيقة فإنه يمكن الحديث عن البحث والقدح كدرجات في خط التفكير والتعامل مع الواقع. سأحاول هنا تقديم مثال عن عمل القدح والبحث في سياق واحد بشكل طبيعي.

من الأساليب المنتشرة للتفكير في قضايا معينة أسلوب العصف الذهني. أحد التعريفات المشهورة لهذا النشاط تقول التالي: العصف الذهني هو مجموعة من أساليب الإبداع التي من خلالها يتم البحث عن حلول لمشاكل من خلال جمع قائمة من الأفكار العفوية والمباشرة من أفراد جماعة العصف. العملية كالتالي: يجتمع جماعة من الأشخاص وتعرض عليهم مشكلة ما ويطلب منهم إطلاق العنان لمخيلاتهم للبحث عن حل لهذه المشكلة. المطلوب من أفراد الجماعة ألا يقوموا بفرز ذاتي لأفكارهم بل يذكرون ما يخطر في بالهم حتى ولو بدا غريبا ومفاجئا وبدون علاقة واضحة. في هذه المرحلة من البحث نحن في حالة قريبة من القدح. من إطلاق العنان للأفكار للخروج بدون رقابة النقد والتحليل الدقيق. طبعا هناك فرق هائل بين الإبداع وبين إطلاق الأفكار جزافا، لكن هذا الفرق يجب ألا يحجب عنا لحظة العصف التي يمكن أن تولد فيها لحظات الإبداع. بعد هذه المرحلة يتم جمع الأفكار المطروحة وفلترتها ونقدها. بمعنى أن كل هذه الأفكار تخضع لعملية البحث الهادئة التي لم تعد هنا عفوية بل منهجية تراعي اعتبارات كثيرة متعلقة بطبيعة المشكلة وظروف الواقع والأهداف التي يسعى الباحث لتحقيقها. هذه المرحلة تعني استبعاد بعض الأفكار وقبول بعضها. هنا نمر بمرحلة مهمة وهي مرحلة النقد الذاتي حين تقوم الجماعة أو الأفراد بمواجهة أفكارهم وفرزها وإعادة تقييمها. هذه المرحلة تبدو صعبة على القادح باعتبار أنه يربط بشكل حاد بين ذاته وبين أفكاره ويعتبر أن كل نقد أو رفض لأفكاره هو نقد ورفض لذاته.

القدح في المشهد السابق يبدو خطوة أو مرحلة طبيعية في التفكير الباحث والمتأمل، لكنه يصبح مشكلة حين يصبح المرحلة الوحيدة. الجرأة في التفكير واتخاذ المواقف وإطلاق العنان للمخيلة في كافة الشؤون طاقة بشرية هائلة يمكن استثمارها ويمكن إهدارها. في بيئات العنف على ذوات الناس يتم توجيه هذه الطاقة للدفاع عن الذات بدلا من كونها طاقة تمارس من خلالها هذه الذات انطلاقها في العالم للتساؤل والبحث. مع القدح تتحول هذه الطاقة إلى طاقة صراعية بدلا من كونها طاقة تعاون وبناء. القدح هنا يمكن أن يكون شرارة بناء ويمكن أن يكون حصنا يحجب الذات باسم الدفاع عنها.